الثقافة ما بين صِناعة وصراع الأنتلجنيسا - إبراهيم أحمد الإعيسر

 



 

(1)


هذه الدراسة تتلخص من خلال إجابتنا لهذا السؤال: هل الثقافة الأمر المحوري والحاسم في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنهضة؟

من منظوري الخاص لمفهوم خلقية فكرة الحياة أنها خُلقت (كعدو) ضد البشرية يمتثل لنا ببساطة في المرض، الجوع، الفقر، الكذب، الخيانة، الإغتصاب، السرقة..الخ - إذ كان بحسب التعريف السماوي الإسلامي أن البشرية بُعثت إلى الأرض (كعقاب) رباني نتيجة لمعصيتها قبل البعث - لذا من هذا المنطلق يمكنني القول أن فكرة (الكُتب) السماوية كفكرة دستورية وإصلاحية لا تخرج من تعريف (الثقافة) في مفهومها العام. ولعل هذا ما يجعلنا نخرج ببعض الأفكار الخبيثة التي إبتدعها البشر (الأذكياء) في أن تكون لهم نزعة فكرية من تلك الثقافات المتعددة والمتنوعة أو نزعة أيديولجية جاذبة تخدم مصالحهم الخاصة عبر دراسات نقدية يصاحبها الخلل المتعمد لإبتكار ما يعرف بالخدمة التي تقدمها الأيديولجيا أو نزعة راديكالية سلبية (تؤمن بالحلول الجزرية التي عفى عنها الزمن). وكنموذج في ذلك يمكن أن نشهد نسبة التأثير الذي خلقته الأنتلجنسيا الغربية/السلطوية واللاسلطوية التي نقصد بها (النخبة الثقافية الغربية في صنفيها المختلفين: الشعبي/السلطوي) حول إبتكارها أولاً لفكرة الحركات الأرهابية بين الخارطة العربية الإسلامية ثم تعريفها لاحقاً للإسلام والإسلاموية بأنها (بربرية) و(فاشية) معتمدة على (تشويهها) المتعمد للمعرفة الدينية الإسلامية من أن عملية الإرهاب في الشرق الأوسط ناتجة من دافع (الجهاد) الوارد تناوله في السنة النبوية والقرآن الكريم؛ وهو أمر في جوهره مقصود به الدعم الشعبي الغربي للتدخل المباشر السلطوي (العسكري) في المنطقة العربية لإضعافها لأجل حيثيات مصلحية إقتصادية وحيثيات أخرى سياسية لدعم الجانب (الإسرائلي). أضف إلى ذلك أن معرفة الإنسان الإسلامي تتفق مع نظرية التحريفات الدينية التي لازمت (التوارة) و(الأنجيل) والأختلاف حول اللغة التي كُتبت بها (الأناجيل): وللوصول إلى نتيجة واقعية حول هذا الأمر كان مرجع الغربين في ذلك هو الإجابة التي تجيب على سؤال: أية لغة كانت رسمية وأولى في زمن المسيح عليه السلام أو في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد: الآرامية السيريانية أو الأكادية أو اليونانية؟

في الحقيقة كلاً ينحاز بتأويل أو بمنطق مصحوب بوثائق إلى (ذاتيته) أو (قوميته) التي أدلجتها الثقافة نفسها - كقيود لتحررها الفكري - أو بالمعنى البسيط (يفصل تحليل المعرفة وفق مقاسه ومزاجه وإنحيازه) مثل الكنيسة (الرومية) تتفق على أن (الآرامية/السيريانية/اليونانية) هي لغات كانت سائدة في ذلك الزمان لكن تظل (اليونانية) هي اللغة الرسمية بينها لجعل (النصرانية) تراثاً غربياً ليس ببعيد عن تراث أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس. والأخرى تختلف معها لدعم منافعها الخاصة كذلك. ومن جانب آخر الأمر ينطبق على التعددية المذهبية في الدين الإسلامي وإختلافتها التفسيرية المتعددة للمنهج السماوي الإسلامي. كما ظلت بعض النخب السياسية مثل النخبة الشيوعية والاشتراكية والليبرالية والعلمانية متأثرة أو متماهية أو مستوردة للأيديولجيا الغربية، إضافة لتأثر اليمين العقائدي بفكر الإسلام السياسي الإقليمي وهو إستوراد إذ حدث له مطابقة مع الواقعية العربية الإجتماعية والسياسية والدينية..الخ سوف نكتشف حجم التعارض (التناسبي) مع الواقع الذي لا يقود إلى نهضة  أو إصلاح أو توافق شعبي من الغالبية الشعبية المستقلة والنخبة الحزبية العظمى. خصوصاً إذ توقفنا عند تعريف العلمانية في العالم العربي الإسلامي - دعماً لأدلجة الثقافة وفق المصالح الخاصة - أن العلمانية لها تعريف نخبوي يساري على وجه الخصوص يدعم عملية إنتقالها في هذا العالم وتعريف آخر أكثر تشدداً عند النخبة العقائدية اليمنية والتيارات الإسلامية المتعددة أنها تعطي لها تعريف مغاير للمثقف من داخل الدولة أو الإقليم. كما أن التأثير الثقافي أو المعرفي أو العلمي الغربي لم يقتصر على الجانب السياسي وحده بل على العلمي نفسه: في أن النخبة العربية العلمية لا زالت تستند إلى يومنا هذا في مرجعها على البحوث العلمية الأمريكية والأوروبية، بل المؤسسة التعليمة نفسها تعتمد في منهجها التعليمي على تلك البحوث دون أن تطور فيها أو تقدم لها نقد تطبيقي لمعالجة إشكاليتها نتجة للنظرة الدونية لذاتها ولعوامل سلطوية في إتاحة الآليات العملية اللازمة لها. مثل ما هو الأمر في الدول الغربية كالموسوعة البريطانية (Encyclopaedia Britannica) 1768 التي تعرف بإسم (دائرة المعارف البريطانية) وتعد مرجعاً مهماً في دائرة البحث العلمي في أن محتواها تم إعادة صيغتهِ 1928 ليواكب التقدم العلمي في ذلك الزمان.


الشيء المراد إستخلاصه هنا هو أن الثقافة المنوط بها للوعي والتنوير والوصول إلى بناء حياتي وإنساني سليم سواء كانت ثقافة (سماوية ربوية) أو (إنسانية) أصبحت وسيلة أو (مادة خام) يستخلص منها (معرفة ذائفة) تخدم أفراد وقوميات وتيارت وأحزاب ومنظمات وجمعيات محددة مستفيدة من اللغة المجازية والرمزية بين الكُتب السماوية والأدبية والفلسفية والعلمية..الخ والتباينات المعرفية للتاريخ الإجتماعي والديني والسياسي..الخ لتخفي أجندتها بينها. ليظل بالمقابل التأويل الأكثر منفعة (للذاتية الإنسانية) هو الذي يستطيع إستقطاب الآخر من (الذاتية الإنسانية) الأخرى الفارغة من المعرفة أو (الجاهلة/الأمية) العائشة على الفطرة المعرفية غير الموثق بها أو التي تحوم حولها الشكوك في العادة. ولعل هذا ما أحدث صراعات قومية وحزبية ودينية وطائفية مثل الصراع القائم بين الكنيسة الغربية (الكاثوليكية) والشرقية (الأرثوذكسية) من الناحية المسيحية والطائفة الشيعية والسنية من الناحية الاسلامية. فالمجمتع البشرى على العموم والدوام منذ النشأة البشرية لم يتوافق حول أراء متوحدة في المسائل العامة الدينية والسياسية والاجتماعية..الخ كما لم يتفق على أيقونة واحدة بين كل المجالات المتعددة والمختلفة. أو بالمختصر كنموذج لم تصل البشرية إلى يومنا هذا حول الإجماع على نبي واحد وإله واحد وديانة واحدة وطائفة واحدة ولاعب تنس واحد..الخ. بل حتى واحدة من العلوم التي تعد محل ثقة مثل علم (الأركيولوجيا) هي ذات توجهات مصلحية مخالفة للحقائق التاريخية.


ما أريد توصليه بدقة وبساطة أكثر هو أن أزمة المثقف تكمن في أنه مثقف غير مستقل أو متحرر .. يعيش في حالة تأثر دائمة بمعرفة الآخر التي يرغب بتعميها على شعبه أو مجتمعه المأزوم نفسه في كيفية الحصول على إستقلاله الفكري أو واضعاً نفسه في خانة (المنتمي). ولعل هذا ما يجعلني لا أتفق كلياً مع مفهوم نعوم تشومسكي (أن المثقف عدو للسلطة ومعارضاً لها) ومع المفهوم المقارب لي إدوارد سعيد (بأن المثقف ليس صديقا للسلطة) لأن في نظري المثقف اليوم أصبح موجه أو مخدوع بصورة (أذكى) من ما نتخيل أو من ما هو سابق إذ كان في المفهوم الثقافي القديم أن الحكومات الديكتاتورية تقودها النخبة (العسكرية) في العادة لكن هناك تحول بتفكير (شيطاني) قاد إلى أن الخدعة الكبرى تكمن في أن تأتي بحكومة ديكتاتورية من النخبة (الثقافية المدنية). وأن المثقف أصبح يمتهن وظائف لا أخلاقية لكن تبنيه للثقافة هو مجرد ثوب أسود يخدع به الآخر أو يحجب به أعماله الخبيثة أمام الآخر. وهو ما يشير له إدورد سعيد في تناقض لفكرته الأولى - أن المثقف ليس صديق للسلطة - (بالمثقف السلبي) مقدماً له تعريف دقيق يعلل فيه أزمة الثقافة عموماً (إن المثقف السلبي أحد أهم أزمات المثقف والثقافة في المجتمع لأنه قد يتوالد منه المثقف المنافق والمثقف النفعي والمثقف الخدمي والمثقف القزمي) - وهو مثقف في تحليلي الخاص وارد إستقطابه لصحبة السلطة - ليعكس لنا مدى التناقض غير الملاحظ عند إدورد سعيد، ومدى تحول المثقف لإنسان غير (مُصلح) بهزالة مفهمومه أو تعمد تبينه لتلك المفاهيم التي تجعل منه إنسان لا أخلاقي في عبادة المصلحة الخاصة بالطرق غير المشروعة. 


فالمثقف لم يعد ذلك الكائن الأخلاقي المنوط به كرسول محبة وسلام ولا الثقافة التي تتمثل لنا في كل المجالات العلمية نفسها تم تعريفها بأخلاقية ومصداقية وفق خدمة المصلحة العامة. ولا تم حتى في أحدوثياتها أو منتوجها المتجدد أخلاقيات شاملة في هذا المنتوج. بل هي أصبحت أداة تبنى منها الأيديولجيا المنحازة لأطراف بعين ذاتهم يقف البعض منهم في خانة ضد الحياة نفسها وآخر في خانة مع الحياة كإمتثال لصراع قوى (الخير والشر). أو كتعريف واضح لجوهر الثقافة في أنها تمتزج ما بين تمثيل (الخير والشر) من النظريات المختلفة (للأنا والآخر) حول أن الذي يعتنق المسيحية في الغرب يؤمن من خلال (المعرفة الذائفة) التي قُدمت له أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة (إرهابية). لكن فوق كل ذلك حينا نقسم الثقافة إلى ثقافة سلبية وثقافة إيجابية نجد أنه من الأمر الطبيعي أن تكون الثقافة في محتواها العام ذات أوجه مضادة ومختلفة.


لذا من خلال ذلك يستوجب أن يظل الدور الطبيعي للمثقف الجيد هو (الإستقلالية) من القيود التي تحكم أفكاره وأخلاقه .. لأن الإيمان المطلق بالموروث يجعل المرء عبداً لأفكار وأخلاقيات محددة سالبة وخاطئة .. فأنا لا أؤيد ممارسة الدين كعادة وليست عبادة لأن ذلك يجعل الإيمان عند العبد قائم على مبدأ الخوف من المعاقبة الإلهية وليس حب لعظمة الإله في ذاته والإيمان بوجوده وخلقياته الكونية العظمى وقدراته الهائلة في الإفتعال والعلم بالغيب .. ففي نظري الممارسة التي يتبناها المجتمع العام هي دوماً نابعة من مصدر (خوف) إجتماعي أو إلهي إذ كانت لها علاقة دينية.


هذا المفهوم يقودنا إلى فكرة التأثير الثقافي الذي يتمثل لنا في الأفكار الفلسفية حول الوجود: في أن أغلب الملحدين هم مرتدين من ديانات أخرى وهذا الإرتاد إذ وجدنا له دوافع سوف نجدها عند المفكرين والفلاسفة الذين يخلقون مبررات هي ما كانت مقنعة لكافة الملحدين المرتدين من ديانات أخرى حول نفي الوجود الآلهي والحياة الأخرى والعقاب والمكافاة المتمثلة في المراتب الجنانية مقابل العبادة بينها والتي تبدأ من لحظة السؤال «إن كان الله موجود لماذا خلق هذه الحياة بهذه الفوضى؟» و«هل الله بكل عظمته التي تناولتها بعض الأديان السماوية يحتاج لأحد ليعبده وماذا يستفيد من تلك العبادة؟»


أتذكر أنني كتبت ذات يوم على صفحتي الخاصة بموقع (فيسبوك) لماذا خُلقت (النملة)؟ ولو أنني أعرف أن كل عملية خلق لها أهمية محورية في بنية التوازن الكوني كالفطريات التي يعتقد البعض الكثير أنها لا تشكل منفعة للإنسان بقدر ما تشكل (ضرر) بالغ يؤدي للموت إلا أن العالم الروسي (ميتشينكوف) اكتشف فوائد بعض أنواع البكتريا في علاج أمراض الأمعاء، لكن كان لي عبر ذلك السؤال إختبار لدراسة العقل الديني بين المجتمع العربي الإسلامي؟ وهو ما وجدت وجدت منه ردود فعل عنيفة من بعض التيارات الإسلامية المتشددة: في أن مثل هذه الأسئلة التي تتعلق بالوجود يعد طرحها أمراً يؤدي إلى التأثير على العقول البسيطة بمدخلها إلى الإلحاد أو تبني ديانات أخرى غير الإسلام.


لم أتعجب في الحقيقة من تلك الردود التي واجهتني لدرجة (عدم المصافحة) من الذين أعرفهم لأن معرفتي بطبيعة هذه المجتمعات يجعل من تلك الردود أمر طبيعي في نظري إذ ظل المجتمع بمورثه الثقافي والديني يمثل سلطة مقيدة لعملية التحرر الفكري والبحث الديني؛ فالذي نشأة مسلماً بالفطرة لا يحق له في المفهوم الإسلامي عند المجتمعات العربية الإسلامية الإطلاع على الأديان الأخرى والأفكار التي تعمل على تحليل وتفكيك الوجود. ربما أن الخوف الذي يسكن في عقلية تلك المجتمعات نابع من التضليل المعرفي عبر وسيلة اللغة والفكرة كأدوات مركزية لخلق المعرفة أو خلق ثقافة محددة أو أيديولجيا محددة يمكن أن تكون جاذبة لفئة عديدة؛ فاللغة لها مفعول السحر عبر كنايتها وإستعاريتها ومجازيتها البلاغية والفكرة هي الوسيلة المقنعة التي تجذب لها الآخر لتبنيها، لتلك الدرجة تصبح عنده عقيدة يمارس توجهاتها. لكن ظهور ما يعرف (بالنقد) و(نقد النقد) هو ما يعد خطاب نقدي (وقائي) أمام الخطاب الثقافي ذات التوجهات الأيديولوجية، وهو في حد ذاته لا يخرج من دائرة الأدلجة؛ إذ أنه وارد فيه الإنحياز الأيديولجي للخطاب الثقافي أو لفكرته الخاصة التي يبني عليها دراسته النقدية.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم