إن عملية (الإدراك) عند العقلية الأدبية العربية والإفريقية على وجه الخصوص من العالم الثالث للمفهوم الإستعماري في صورته الحديثة (الإمبريالية/الكولونيالية) وعبر ألياته الحربية (الوهمية/الشكلية) المخادعة من (صندوق النقد الدولي) و(البنك الدولي) إلى آخره، والأخرى (المباشرة في صِنعتها الفكرية واللامباشرة في تنفيذها أو توجيهها الفعلي لإصابة أهدافها الجوهرية) في الثروة الفكرية المتمثلة في صناعة الأسلحة البيولوجية والكيفية التفعيلية لها للمكسب الإقتصادي العائد من الناتج الاقتصادي لإختراع اللقحات المتصدية لفعاليتها المرضية إن لم نقل الحربية وصناعتها للأسلحة غير المحرمة دولياً وصناعة الحرب بالمقابل لها في العالم المتخلف للحصول على تجارب فاشلة أو ناجحة تحدد إعادة إنتاجها وعلى ناتج إقتصادي من خلال تجارتها (أو تفعيل دورها الاقتصادي عبر صناعتها للحروب الأهلية أولاً ثم بيعها لاحقاً في عملية ذكية لتنشيط تجارة الأسلحة) أضف إلى كل ذلك آليات الرقابة والعقوبة وآليات الإستعمار العقلي عبر التأثير الإعلامي والتعليمي والسياسي وغيرها .. في أنها لم تستفيد من ذلك (الإدراك) بين منتوجها الأدبي عبر خلقيتها الخطابية في أن تخلق خطاب (ثوري) مضاد للعقلية الإستعمارية الغربية (عقلية الإنسان من جغرافيا المركز العالمي: الإتحاد الأوروبي/الولايات المتحدة الأمريكية) بل أن عملية البناء الفكري والمعرفي والعلمي كانت (جوفاء أو فارغة) من عقلية شخوصها الأدبية على مستوى جنس الرواية والقصة (الأقصوصة) والحكاية..الخ فالقارئ الجيد للمنتوج الأدبي العربي والإفريقي يلحظ إلى أن الشخصيات الأدبية تتحرك داخل الحياة العامة والخاصة أو خارجها حينا تُفقد جُزئتها الحياتية أو تفتقدها في الحقيقة جميعها نتيجة للقبضة الإستعمارية نفسها بعجز ويأس وتخلف في فكريتها أو هي غارقة في الموروث الثقافي والتدين الشعبي، وتلك في الحقيقة ما تضعنا أمام فرضية السؤال المفقود في (عملية النقد الذي يفكر خارج الصندوق): هل تلك مشكلة الأديب الذي لخص الواقع الإنساني بما هو عليه الحال أو هي مشكلة الإنسان نفسه الذي تم تلخيصه أو أن الأديب تعمد تجاهل النخبة الفكرية والمعرفية والعلمية الموجودة فعلاً بين قاع المكان (باطنه) أو هرمه (ظاهره) في المؤسسة العلمية والثقافية العاجزة نفسها عن تقديم الأدوات العملية اللازمة له والحافز المادي الناتج للمعنوي؟
ولتبسيط ذلك علينا أن نوجه فرضية السؤال المفقود الآخر: هل هنالك من وجود لشخصية روائية عربية (هامشية أو ثانوية/أو بطلة) حاولت إنتاج (ثروة فكرية) في الصناعات الحربية أو الطبية أو التقنية المعلوماتية؟ أو هناك شخصية بذات الحال قُدمت بفكرية عالية على أنها تحاول الأستفادة من الطبيعة (المادة الخام للصناعات المختلفة والمتنوعة) لإنتاج ثروة خام مثل السيليكون والصخور الجبلية والصمغ..الخ تحول داخلياً المُنتج الخام لثروة فكرية تتمثل لنا في الصناعات الالكترونية والتحويلات الغذائية والأدوية والملبوسات والأحذية..الخ أو شخصية من مهمتها أن تغوص في إبتكار الحل الجذري لذاتها وللآخر؟ أو شخصية تلعب في تفكيك العقلية الإستعمارية بين تحركاتها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية داخل العالم المتخلف؟
من الواضح أن (أسطرة) و(بطولة) الشخصية العربية والإفريقية في الأدب العربي والإفريقي تنبع من دائرة البؤس نفسه وبذات العجز الإنساني نفسه في إستراتيجية الفعل: إحتساء الخمر، ممارسة، الجنس، الهروب من جحيم الدولة العربية الديكتاورية إلى جغرافيا المستعمر الدولي والإقليمي الذي يحارب بالوكالة نفسه، ولعب القمار وإكتساب رهانته هو ما يعد أكبر مكسب لجنوح الشخصية (للأسطرة) و(البطولة) أو في العموم (أسطرة) الواقع بصورة سلبية. لكن ربما أكثر شخصية تم طرحها أدبياً في جنس الرواية والقصة كمحكاة لدور (الأسطرة) و(البطولة) الحقيقية هي الشخصية التي تم (شعرنتها) أو تلبيثها ثوب (الشخصية الشاعرة) التي هي بالمقابل نفسها قدمت خطابها (بعجز ثوري) ينهاض الخطاب الإستعماري الإمبريالي أو السلطة المحلية الحاكمة على أنه لم يخرج من التأطير (الخطابي) الذي لا يخرج من المقاومة الشاعرية المحاكية أو المتماشية مع الخطاب (الروائي/القصصي) العاجز أكثر من ((المعجز)) بالمعنى المجازي كأدة إصلاحية سلمية لمجابهة العدو الإستعماري أو كنموذج في ما يقوله الشاعر “إن حظى كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه إن من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه” الذي يعكس مدى (العجز) الإنساني في (ثورة الشاعر الذاتية ضد الحياة) - وهو أمر أشبه بأمر الفلسفة أنها بقدر ما تنتج مادة خام للفكر (تمهيد فكري) إلا أنها تقدم (عجز) إنساني مثل الفلسفة الشعرية عند تشارلز بوكفسكي أنه عرف الشارع بأنه (هو ملاقة الحمقى بالحمقى) - ذلك لو أن (بتر) جزئية من القصيدة وتطبيق إحكام فكري كلي حولها يعد إحكام غير شفاف؛ لأن القصيدة في الغالب تكتمل مفهوميتها بكمال أبياتها.
لكن فوق كل ذلك يعد الروائي السوداني (الطيب صالح) أنه من الروائيين النادرين الذين إستفادوا من ذلك (الإدراك) لخلق خطاب مضاد لخطاب العقل الإستعماري عبر شخصيته الروائية الاسطورية (مصطفى سعيد) الذي كان يمثل (أسطورة) أو (بطولة) (حقيقية) من خلال خزينته العلمية والمعرفية والفكرية والنقدية الفائضة الموازية للخزينة الغربية وهي ما لم تكن كافية في نظره كوسيلة إنتقامية ينال بها من المستعمر ليستخدم بدلاً منها (عقليته الشرقية والإفريقية) لفهم العقلية الغربية الذي شاهد من الأفضل أن ينال منه عبر (فحولته) و(غرائبيته) الثقافية التي وظفها كوسيلة إنتقامية ضد المستعمر يصطاد بها النساء الأوروبيات - الغارقات في الفتون بهذه (الغرائبية) - في الحياة الجنسية. ولعل هذا التوظيف عند الطيب صالح هو تصحيح مفاهيمي للصورة الشرقية في مخلية الإنسان الغربي والصورة الغربية في مخيلة الإنسان الشرقي. وهو ما يعد حالة فكرية مشابهة إلى ما طرحه (إدورد سعيد) في كتابه (الإستشراق) 1973 من تصحيح لصورة الشرق في العقلية الغربية وهو أمر من حيث (المقاومة) الفكرية موجود في أدب (المقال) كما هو عند (فرانز فانون) لكنه غائب عن الأدب الروائي والقصصي والشعري والنثري..الخ أو هي معضلة تواجه الأديب (العربي/الإفريقي) في قدرته الهزيلة للجمع في هذه الأجناس الأدبية بين الفكر واللغة. ليظل بالمقابل مؤثراً على العملية النقدية في أن تأخذ اللغة بين نظرتها حيز الأولوية في الأدوات الإبداعية (اللغة دوماً تسبق الفكر أو تمثل محور الأدوات) لذلك ظل المنتوج الأدبي العربي على وجه الخصوص مرتكزاً على الإبداع اللغوي ومتجاهلاً للفكري (أو الفكر أصبح محصوراً حول اللغة) وذلك ما يمكن أن يكون موضوع إختلاف (هل اللغة تحتاج لمفكرة أو هي فكرة ثابتة غير قابلة للتفكير من داخلها؟) هي في الأساس (فكرة) غير متغيرة لغرض أداة تواصلية تعتمد على سعة خزينة الكاتب اللغوية لكن في مدى تراكيبها من حيث التكوين للجملة الأدبية والشعرية يحتاج هنا الكاتب لذاكرة من تلك الخزينة كما تحتاج لفكر من داخلها من حيث الإختيار للمفردة التي تقود للمعنى عبر تراكيبها.
كذلك من الأدباء النادرين الذين قدموا أعمال مناهضة للمركزية الأوروبية وسيطرة الرجل الأبيض نجد الروائي النيجيري (تشينوا أتشيبي) في روايته (الأشياء تداعى) يقدم لنا (بطلاً) يرى العالم الإفريقي ينهار وسطه مع وصول الرجل الأبيض. و(تشيماماندا نغوزي أوتشي) يقدم لنا كذلك رواية ملحمية يقدم فيها ثلاث (أبطالاً) يعكسون وجه الصراع الذي تدعمه المحاور الدولية في نيجيريا. أيضاً الكاتبة الزيمبابوية (تسيتي دانجاريبمجا) تطرح لنا فكرة مغايرة تحيلها إلى توظيف الفكرة الغربية أو ما نطلق عليها (بفكرة التوظيف المعرفي والعلمي لخدمة الوعي والتنوير والنهضة الحضارية) أو بالمختصر تحيلها (للخطاب العلمي) في أنها عبر روايتها (حالات عصابية) قدمت حالة (أسطورية) للشخصية الرئيسية في الرواية (تامبو) وهي فتاة كانت تعاني من الإذلال وسط أسرتها ووطنها، وتحلم بالمقابل أن تذهب إلى المدرسة بدلاً من الذهاب إلى الحقول والزواج المبكر. وغيرها من الأعمال القليلة النادرة التي تقدم (فكرية) متمردة على طبيعة (سلبية الخطاب) الأدبي (العربي/الإفريقي) القائم على صراع الإنسان مع الحياة والسلطة.
فمن المفارقات ما بين أدب العالم الثالث الذي تطغى عليه (السوداوية) و(الواقعية الإنسانية المتخلفة في مدى فكرها) والأدب في العالم الأول المتحضر نكتشف أن (إجابية الخطاب) في الأدب الغربي هي الأمر السائد كما هو الحال في رواية مثل (عالم صوفي) لي جوستاين غاردر التي تدور أحداثها حول الطفلة (صوفي أمندسن) التي تتلقى دروساً في الفلسفة من رجل غامض يدعى (بألبرتو كونكس) طارحة في ذلك (مدخل لعلم الفلسفة) أو تمهيد جيد للذين يجدون صعوبة في مدى الفهم الفلسفي. ورواية مثل (أوديسة الفضاء) لي أرثر سي كلارك التي تروي قصة البشرية منذ عصور البدايات، وصولاً لإبتكار الاتصالات اللاسلكية والسفر في الفضاء. ورواية الأرض (المسطحة كذلك) لي إدوين أبوت التي من خلال حكايتها تهدف إلى تعليم الرياضيات والأبعاد النسبية. بل أن (جون فيرن) صاحب رواية (العالم في 2889) خرج عن (الفكر الطبيعي) إلى (الفكر اللاطبيعي) في هذه الرواية التي تتقدم فيها الشخوص بأنها متخطية لحدود العقل البشري في فكرتها (لإحياء الموتى)! وفكرتها المجنونة الأخرى (في إبتكارت لا يمكن للإنسان صناعتها)!.
فالواضح أن المخيلة الغربية الأدبية بخلاف أنها تنحاز (للخطاب العلمي) هي مخيلة في جوهرها تهتم بالبحث عن (الحل) أكثر من إهتمامها بتعليل المشاكل الإنسانية التي يمكن أن نشاهد إبتزالها في الأدب (العربي/الإفريقي) لذلك من الطبيعي أن نشهدها متسيدة (للثروة الفكرية) في العالم الإقتصادي الذي أصبح لا يؤمن (بالثروة الخام) كمنتج غير عالي في القيمة الشرائية الإقتصادية مقارنتاً (بالثورة الفكرية) إن كانت قيمة (الكولتان) كمعدن خام تسوي ربع سعره في الصناعات التحويلية المتمثلة لنا في صناعة (الهواتف) و(محركات الطيران).. الخ.