صدى كلمات - أحمد سليمان أبكر

 



رشّ الماء، تناثرت قطراته مصيدة لنسمات الصباح، تلطّفت العريشة، نفض الغبار عن المقاعد الخشبية الصغيرة المخصصة لجلوس الزبائن، وضع أمام كل مجموعة منها منضدة صغيرة، جلس على مقعده المخصص فرغ من صنع الشاي، توافد الرواد أفرادًا وجماعات.

صورة كبيرة لأحد لاعبي كرة القدم المشهورين، كتب على هامشها (ساحر المستديرة) تزّين السياج الخلفي للعريشة (المقهى)، رواد العريشة هائمون في سحابة من الملل، منهم من يعبثون بعصيهم في الرمل، ومنهم من يفتلون شواربهم الشعثاء كل آونة وأخرى، وآخرون يحدّقون في وجوه بعضهم البعض بنظرات باردة، ويطلقون ضحكات بلهاء وهم يستمعون إلى أحدهم وهو يحدّثهم عن هموم الحياة الجديدة التي تخلع ثوبها في كل يوم كالأفعى، صوت جهاز التسجيل يشق بزعيقه جو العريشة المصعوق بالدخان والضجيج وحركة الداخلين والخارجين من المقهى الكئيب.

لا هو بالبدين ولا بالهزيل، في الستينات من عمره، يلبس قفطانًا رمادي اللون وجبة مخططة جميلة المنظر وعمامة بيضاء مكورة، له وجه صارم القسمات وشارب أسود منمق بعناية فائقة يتوج ابتسامة لا تكاد تميز من الوقار، نمت نظرة من أعلى إطار نظارته عن حنكة بمعادن الناس، تفوق خشونته في النصح، تمعّن به، تذكّر شابًا بذات هيئته، بذات عوزه وبؤسه، لكنه كان شابًا شرسًا مكافحًا، لم يكن منهارًا ضعيفًا  كهذا الذي يجلس أمامه.

دون تمهيد قال له:

لا ينبغي لمثلك أن يجلس مثل هذه الجلسة الحقيرة، أنت شاب قادر على الإنتاج والعطاء في مجالات أنفع لك ولعشبك بكثيرٍ مما أنت فيه.

صمت الحضور بل لاذ الشباب منهم بالفرار، تغيرّت سماته، ظهرت عليه علامات الاندهاش والاستياء، لم يكن يتوقع مثل هذا الحديث الذي وقع عليه كالصاعقة من أحد، أدخلته كلمات الرجل في حالة من الغضب، حاول أن يكتفي بالتنهد أمامه ليشعره بانزعاجه من سخريته التي أصابته في كرامته، فجأة أحس بنظرات جلسائه الشزراء تصادر حالة السعادة التي كانوا يوقظونها فيه باجتماعهم حوله، ارتجفت أركان شفتيه، تضخّم لسانه صار رخوًا، أراد أن يتكلم، تحرك لسانه كعجلة عربة محطمة، فأحدث ضجة مضحكة ظلت ذاكــرته تفور بالرد لبــرهة، لكن تماسك دون أن ينبس ببنت

شفة.

قلبه يكاد يميز من الغيظ مما رماه به الرجل، أخذت تنتابه عوامل الضعف والكبرياء متناوبة بين دقيقة وأخرى، استقر في فكره أن لابد من الانتصار لنفسه، ثم لم يلبث أن كظم غيظه وتحول عن ذلك وقد أخذت كلمات الأخير تتردد في أذنيه: عليك أن تعلم أن النفس العالية لا تخضع للحوادث ولا تذل لها مهما كان شأنها، ولا تلين صعدتها أمام النكبات والأرزاء مهما عظم خطبها وجل أمرها؛ بل يزيدها مر الحوادث وعض النوائب قوةً ومراسًا، وربما لذ لها هذا النضال الذي يقوم بينها وبين حوادث الدهر وأرزائه، كأنما يأبى لها كبرياؤها وترفعها أن يوافيها حظها من العيش سهلًا سائغًا لا مشقة فيه ولا عناء، فهي تحارب وتجالد في سبيله، وتغالب الأيام عليه مغالبة حتى تناله من يدها قوةً واغتصابًا.

تردد صدى الكلمات في أذنيه مرات ومرات، قال جازمًا:

عليّ أن أشكر الرجل على صنيعه معي، بدلًا من الانتصار لنفسي، إنه حقًا غرس في قلبي آمالاً حسانًا، إن تعهدّتها بالجد والعمل ستتلألأ أزهارها، وتخرج ثمارها إن شاء الله.

في وسط الزقاق وعنــــدما كانـــت قدماه تضـغطان على أوراق الشجر  

الساقطة، لمح ظلًا يقترب منه بعد أن أبطأ خطاه، توقف أمامه صاحب

الظل، توقف الشيخ هو الآخر، أمعن ببقايا النظر، الملامح ملاح من يعيش في ثراء عميم، أخذ الأخير يسبح فوق سطح ذاكرته وهو يشمله بمشاهد من الحادثة تغريه.

عاد الشيخ يكدّ ذهنه، مر بعض الوقت، قبل أن ينطق بقوله:

أهو أنت؟..

ضحك الأخير من قلبه، وانكب يقبّل يدي الشيخ وجبينه وهو يقول له:

نعم ..أنا هو



Post a Comment

Previous Post Next Post