خرج لوحده بعد ستة أشهر من الجلوس، لم يكن يستطيع فيها حتى استعمال العكاز من أجل الوقوف. أنهكت قواه حادثة السير، جعلته لا يستطيع أن يتذكر من هو، أفقدته كل شيء حتى تذكره من يكون.
جال بنظره في كل زوايا منزلهم البسيط. كان قد استعاد بصيرته، تشكلت من جديد بشكل مختلف عن السابق. الألم دائما يعيد تشكيلنا من جديد، و يسمو بنا غالبا.
اتكأ على عكازه من أجل إبعاد شيء ما عن باب المنزل، تذوق طعم الوقوف و الخطو كما لم يتذوقه من قبل، انتابه الفرح، شله من الداخل، لكنه توقف على الاستشراء في أغوار نفسه. استشف العوز الذي يطبع وضع منزلهم من الخارج، بيوت متلاصقة مع بعضها البعض، كل واحد بُني في فترة زمنية معينة بعيدة عن الأخرى، مسقوفين من الأعلى بالقصدير. البؤس متبدي بوضوح على ملامحهم.
أفراد أسرته لا تنتبه إليه، طَبَعوا معه، أصبح شيء عادي، لكنه ظاهر للعيان دون تفحص.
جلس على أحد القطع الخشبية الموضوعة بجانب منزلهم، غالبا لا يفارقها والده في وقت الذي يكون فيه في المنزل هربا من الاحتقان الذي يتخلل المناخ الكالح داخل المنزل.
تذكر ذلك الحلم و هو جالس، تلك الأمنية التي ترعرعت معه، و نساها، و تنساها بعد أن أصبح ملتحي الذقن. كان يرنو لتغيير وضع عائلته، أن يسمو بها.
ظهر الاحتقان على ملامحه، و هو يتذكر ذلك، كان يريد أن يغير، أن ينمو بوضع عائلته. لم يفعل شيئا ، انحرف عن الطريق، أصبح عالة على عائلته، لم يزد الوضع إلا تأزما. بصعوبة سمح لريقه أن يهوي داخله، بكى بهستيريا دون توقف، ترك دموعه تنساب، لم يمسحها، عرف أنها لا تستطيع أن تغير شيئا .
نظر إليه من بعيد، ابتسم، شعر بشيء من الفرح،لوح بسيجارته بعيدا قبل أن تنتهي، خنق الدخان الذي تسرب إلى أعماقه، لم يتركه يخرج.
التفت في اتجاه القادم منه أبوه، ظل ينظر دون أن يزحزح نظره عن والده، نظر إليه بتفحص كما لم ينظر إليه من قبل ، استشعر الغبن المتبدي على مظهره، شارب غير محلوق أصبح يغطي شفتيه، ملامح أثقلها التعب، أصابها ترهل، تخلت عن جمالية مظهرها، يمسك قفته بيده و هو متدلي فوق ظهره، سروال فقد لونه، بحركته و هو يخطو ينبعث منه غبار. زادته رؤية أبيه حزنا و ألما، و الأب اعتدلت نفسيته و هو يرى شيئا من التحسن طبع الحالة البدنية لابنه.
أشار أحدهم بصوت خافت بعد أن خرجوا من منزل الحاج تامي:
شوف، شوف.
التفت نحوه و قال بصوت أجش: شنو (ماذا).
تُوفيق، تُوفيق، مدة هذه مشفناه، جالس جنب دارهم.
أطلق العنان لخيوط بصره، رآه و أجابه قائلا: على سلامتو مني و لا يخرج.
حرك الآخر رأسه و أردف قائلا: اه، اه، الحمد لله.
لم يستحضر أحد أنه لم يزره، لم يتركا هذا الموضوع يطغى على السطح، الكل حازم أنه يقول أنه استحق ما حدث له، و سوف يعود لحاله بعد أن يشفى من كسر الذي أصاب رجله.
قاموا بتحيته من بعيد، فرضها عليهم موقف المرور من أمامه، بالكاد تجاوزوه، قال أحدهم:
توفيق قريب يرجع لحاله عوتاني، للحالة المعهودة.
لكزه أحدهم بالكاد توقف لسانه، باه، باه جاي (قادم).
تفحصهم، بعينه، بالكاد ظهروا إليه، كان الجدار ممتدا على يمينه يحجب عليه رؤيتهم، تكلم أحدهم قبل أن يتقاطع خط سيرهم.
أهلا معطي، كل شيء بخير.
أجابهم بصوت متعب و بنبرة تريد أن لا تتجادب أطراف الحوار معهم:
الحمدلله، الحمدلله و سكت.
راه شفنا توفيق، راه كيبان و لا شوية.
الحمدلله غادي كي تعافى.
ذهب كل واحد منهم إلى حاله، أدرك أين كانوا، الحاج التامي، غادر المستشفى قبل يومين، كان التضامن كبيرا دون كلل من الساكنة، زاده الأمر ألما من حيث لا يدري،
شعر و كأن سكينا قد انغرس في ذاته، حاول أن يغمض عين بصيرته، نبهته رغما عنه، أن المكانة و النفوذ تحرك عجلة التعاطف و المواساة حتى لو كانت معطلة عند البعض. دفعته أن يفهم أنه حتى في الألم مجتمعنا يكيل بمكيالين.
ألجم لسانه، لم يرد أن يقول شيئا، رقعة الألم تتسع فقط عندما تعرف قبل أن تبدأ أن الكلمات لن تفضي إلى الحل.
حاول أن يرسم الابتسامة على وجهه، نهض، وقف و عانق أباه، ظلا صامتين، كأن ألسنتهما أصابها الشلل، الابن ليست لديه القدرة على قول شيء، و الأب استنفذ كل أسلحته و لم يستطيع ثني ابنه عن طريق الظلال، و فُرض عليه تقاسم جرعة الألم معه حول ما أصابه.
أفلت بعضهما البعض، عاد الابن للجلوس، و دخل الأب للمنزل و هو واعي أنه في بعض الأحيان يجب علينا أن نصمت، و نترك الأحداث التي تتخمض عن عجلة الحياة تُؤَدِب، و تعطي الدروس بأقصى ثمن لمن لم تفضي معهم الكلمات إلى شيء.
استمر بالتوفيق ان شاء الله
ردحذف