الأدب الإفريقي: ماكان علي أن أسميه بهذا الإسم ،وصعب علي أن أنعته بأدب السود أو الزنوج كما سبق في بعض المؤلفات، ولكن رغم تعدد التسميات والمفاهيم فلهؤلاء الأشخاص المنحدرين من القارة السمراء جذور عميقة تقافية شفاهية وكتابية برهنوا عليها كواقع من خلال الفن المسرحي الإحتفالي والرياضي ككتاب ولاعبين في أندية غربية أو مسارح ،مبدين هويتهم الأصلية في بلدان هاجروا إليها كجيل ثالث أو رابع مع تطبعهم بطقوس الأجداد، وأظهروا خشونة الطباع، ومزاج حاد، وعصبية زائدة، في تعامله مع الإنسان الأوروبي أو الأمريكي، وقوبلوا بعدم الإعتراف والتواجد في الأضواء وبخسوا إنجازاتهم، وصنفوا طبقة دنيا عن الآدمية المتوارتة.
لكن الأدب الإفريقي بعيدا عن هذه الإعتبارات التاريخية المتوارية، وإنما هو إبداع وطقوس وخطابات وحلقيات و اجناس أدبية وأفعال وحركات سيميائية وألفاظ لها معنى وأهازيج تلقى وتغنى في المناسبات والأعياد الوطنية وكذا العادات المتكررة والشعائر التي لابد في كل مجتمع مساير إرادية كانت أو لا إرادية وتنم عن وعي بالهوية المختلفة للإنسان الإفريقي عن غيره من الأجناس الأخرى، فلاغرو أن المجتمعات الإفريقية كما هي ثرية بإمكاتياتها الطبيعية ، غنية كذلك بموروتها الثقافي اللامادي كتعبير عن أقوى اللحظات والمشاعر التي تنتاب الإنسان الإفريقي في الأعياد الوطنية والروحية، فتراه يعبر عن ذلك فردا كان أو داخل جماعات، يدمج خلالها حركات بالأكتاف والمفاصل والأرداف ،مصدرها طبيعي أو حيواني عفوي أو مقصود، يهللون ويقفزون ويمارسوت أنشطة محلية ومعتقدات دينية و إيماءات، وإشارات، وأهازيج تعبيرية عن العواطف المتبادلة. فهم سواح يسيحون في كل فضاءات المختلفة، وتختلف من عشيرة لعشيرة، من طائفة لأخرى، منهم من يشعل النيران، وحسب الإمكانيات الفردية والجماعية لهم، على اعتبار أن معظم العشائر والقبائل والأفخاذ تمتد من دولة لأخرى لا حدود لهم، نتيجة الهجرات المتوالية والحروب الأهلية والفتن المتسارعة بالإنقلابات دون إغفال عامل المناخ والجفاف غير المساعد الذي لربما يكون عاملا سلبيا أقوى في ازدياد نسبة الجوع وعوز التغذية في بلدان كثيرة هناك.
فبالرغم من دخول مجموعة من الجمعيات والمؤسسات العربية وتوغلها داخل القارة السمراء، فذلك لم يغير الوضع المادي والثقافي لدى شرائح واسعة، بل التزم معظمهم الحياد-ربما لأنها لا تعمل على أولى الأولويات وهو الدفع بعجلة التنمية الإقتصادية والإجتماعية-واستمروا في الذوذ عن أراضيهم وتقافتهم ولكن مع شعورهم بانعدام الأمن والأمان سلب مجموعة ممن ترونها في الملاعب الرياضية الغربية والمحافل الدولية وغيرها الشعور بالأمان والاطمئنان في بلدانهم الأصلية.
كل هذه الشطحات الإفريقية خلال العصر الحديث برزت بوعي أو بذونه في الملتقيات الكبرى حينما شعر الإنسان الإفريقي باستقرار ظروفه النفسية والمادية فصار يسارع التيران كرياضيين وعدائين لامعين وكتابا وممثلين في هوليود، و شيدوا لأنفسهم جسورا مع جميع الثقافات والأجناس ومسارح عرفت باسمهم مسرح السود أو الزنوج.
لا أريد حصر الأدب الإفريقي في أسماء بعينها برزت في الرواية والفن وحازت على الأوسكار ولقد برعوا في ميادين شتى أملتها ظروف المرحلة كن أو لا تكن، فالحماسة والتفوق والبروز وحب الظهور سمتان في باطن الوجدان الإفريقي ،منذ اقتياد أول رجل أسمر إفريقي كونطاكنتي، وعاش أمثاله ظواهر عنصرية شديدة لخصتها مجموعة أفلام مالكوم إكس وفرضت عليهم العبودية والسخرة والتجنيد إلى الحروب، وسقفت أعمالهم وسفكوا وقتلوا ولم يبق منهم إلا ذكرياتهم نقلوها في الروايات والأعمال الدرامية بأصوات حزينة في الكنائس والمعابد ،ورغم ذلك استمروا في هدم قوانين هوبز البقاء للأقوى والأصلح، ومهما بلغ الإنسان الإفريقي الأمريكي من محاولة الإندماج في محيطه وبيئته المعاصرة، فإن الجيل المعاصر لا يقوى على التخلص من شطحاته ورقصاته وطبعه القديم لأنه ببساطة يسري في دمه، حركاتهم الغنائية، ألحانهم البكائية صرخاتهم، تسريحة شعرهم، لباسهم، نظرتهم للحياة ومن حولهم توحي بتاريخهم القديم المليء بالصراعات والتجاذبات بالصور الأليمة للإنسان البريء من الأطفال والأرامل التي تركوها عبر الحدود ،وحاضرهم المهمش المثقل بالكراهية والبغض، فرغم ما وصل إليه الإفريقي في أمريكا إلى السلطة كأوباما فإنه حقيقة لم يستطع تغيير عادات الإنسان الأبيض التي لا تعترف بدينامية حضور الإفريقي وإنما ينظر إليه كخادم وهم أسياد العالم الحاضر واللاحق داخل القطب الواحد.
ولن أتحدث هنا عن كمية المؤلفات التي ألفها ذو الأصول الإفريقية في الداخل والخارج ولكن من الناحية النوعية فقد حملوا معهم ادبا شفهيا صورته أدهان الأجداد، وتفنن الأحفاد في الشوارع عبر أغاني الراب و أطلقوا العنان لكلمات بذيئة ساخرة وهزلية يمكن نعتها بأدب السخرية والهزل وهو موضوع قديم يضرب جذوره في التاريخ عند الإغريق. فالسخرية والهزل وسيلتان أدبيتان تجسد مكنونات الشخصية، وما يحس به ويعتقده اتجاه الفرد والمجتمع، فمن غير الطبيعي أن لا تجد ضمن هذا النوع من الأهازيج والحوارات والردود بين هؤلاء المؤدين خصومات وتمردات بسبب الإقصاء والتهميش من الآخر، حتى عدا هذا النوع من الفن الخشن سمة مميزة لهؤلاء الأفارقة يعرفون به في أوروبا وأمريكا على الخصوص.
إن الأدب الإفريقي بصمة وأثر لايمكن نكرانه أو التخلص منه ولو غير الشخص الإفريقي جلده ،ليبقى الأمريكي الإفريقي أو الأوروبي الإفريقي يحمل هويته، ثقافته الشفهية والمكتوبة في كل صوب وحذب وفي كل كتاب وفن محمود أو مذموم، مرغوب فيه أو غير ذلك، فما يعتبره أحدهم أن الراب فن بأسلوب جديد في تأدية المعنى فألفاظه تعبير نفسي عن عمق إفريقي ،ينضاف إليه ما يتلقاه الإنسان الإفريقي في بلدان المهجر من تنمر وسخرية ،تزيده تدمرا وصورا وأشكالا إبداعية في مختلف الفنون الإلقائية الشعبية من غناء ومسرح، فهناك شرائط ومسارح في هوليود يقتصر التمثيل فيها على الأفارقة السود، ينشرون غسيل المجتمع، يتماهون، يناقشون قضاياهم بانسيابية ويفتخرون بأصولهم لأنه واقع شئنا أو أبينا فرض عليهم، فلا يستطيعون نكران جذورهم الجغرافية والثقافية، وانظموا داخل جمعيات ومؤسسات تدافع عن هويتهم وثقافاتهم المتعددة التي نادى بها أجدادهم في إفريقيا باتريس لومومبا 1960 في الكونكو ونلسون مانديلا في الجنوب والسيدة روز لويس باركس 1913\2005 ناشطة من أصول إفريقية أمريكية طالبت بالحقوق المدنية للأمريكان الأفارقة. إنهم رموز فكرية كانت وسيظل لها إشعاع فكري منير على الأجيال الأخرى.
وخلف من بعدهم خلف، وإن استطاعوا أن يفرضوا لأنفسهم مكانة مرموقة في المجتمع الأمريكي، من قبيل دانزل واشنطن من أصول إثيوبيا ومورغان فريدمان من جنوب إفريقيا وصامويل جاكسون وويل سميت نجوم لامعة في تاريخ السينما العالمية، باكورة إنجاز إستغلت البساط الذي فرشوه لهم الأولون من الأجداد الذين قاوموا وقتلوا وسفكوا من أجل هذه اللحظات، وآخرين لا يزالون يسيرون على خطى التضحيات الباسلة بنوا ويبنون لهذه القارة السمراء جسورا ثقافية أدبية وفنية ورياضية إمتدت عبر ربوع العالم فاستفاد منهم الأروبيون والأمريكيون الذين جنسوهم و ألحقوا بهم غير أنهم لم يستطيعوا تغيير هويتهم وطباعهم.
هكذا إذن يمكن اعتبار الأدب الإفريقي ثقافة قائمة بذاتها، توغلت من إفريقيا عبر مسالك عديدة، وخطت خطوات كبيرة نحو العالم الساخر، ولمعت وصنعت لنفسها جسورا عظيمة تقاوم التحريف وعدم الإعتراف والنكران الذي يلاحقها، فاتخذت من الأحفاد سفراء يحملون طباعها وفكرها في المهرجانات والمحافل الدولية، وعبر الثقافة الشفهية والمكتوبة وغذا الإفريقي إفريقي ولو غير جلده.