بين أسوار صارعت الظروف، كنت أبية لم تطح بي حرب ولم تعصف بي رياح، كنت أركض من هنا إلى هناك، أخيط ثوب حريتي من نسمات الهواء التي تسابقني، لم تكن أسلاك الكهرباء قد ظللت حينا بعد، كنا نستمتع بأشعة الشمس على طبيعتها، لا يقاطع سبيلها شيء، نجري نحو سطوح المنازل محملين بأكياس متئية بلاستيكية تارة وبقنينات تارة أخرى، لنتراشق بها فتخفف عنا حر الجو، تبللنا قطرات المياه المتطايرة إذا نجت من قبضة الحرارة المفرطة فلم تحولها إلى بخار، وتفرحنا ضحكاتنا المتعالية التي تملأ الحي بهجة وسرورا ما لم يقطعها صوت بكاء أحدنا لسبب ما، جل ما كنا نخشاه هو وقت الأكل أو النوم،فإذا نودي أحد الأطفال، كان ذلك إيذانا بانفضاض المجمع وتفرق الجمع، فيهدأ الحي من صخب الأطفال ليتعالى صخب الكبار في البيوت، كل تضيئه شمعة وامضة وتخضبه مغامرات اليوم لكل فرد من أفراده. كانت هذه هي حياتي، حلقاتها الجميلة المترابطة هذه تعطيها رونقا وجمالا يتضاءل أمامه كل جمال، وتختفي في ظلاله كل الشوائب. كنت سعيدة مكتفية ببساطة الحياة التي أحياها. كبرت قليلا فصار الأطفال يتناقلون خبر وجود شبح يظهر فجأة في الحي بعد أذان المغرب، كان يشبه المستحيل أن أكون خارج البيت حينها، فهذا عرف تناقله الناس فلا تجد أحدا بعد صلاة المغرب إلا ملبو نداء صلاة العشاء، رأيته ذات ليلة بعد أن كثر الحديث عنه، كنت متسمرة بالنافذة أنتظر مروره دون أن أخبر أحدا عن سبب حبي المفاجئ للنافذة، وقد حصل، مر من أمام بيتنا وهو ينظر هنا وهناك يحملق في البيوت كأنها قصور خيالية، لم أر ملامح وجهه، لكنه كان قصيرا ممتلئا يضع طاقية سوداء على رأسه لم أر مثلها من قبل، كان يلبس معطفا وسروالا فضفاضا وينتعل حذاء أسودا، ربما سمعت صوت وقع أقدامه كان مزعجا كأنه بالكاد يتحرك، ظللت أراقبه حتى غاب عن ناظري.
تجاذبنا أطراف الحديث عنه في اليوم التالي أنا وأصدقائي _أبناء الجيران_ كل منا له نظريته الخاصة، لكن اتفقت على أنه شبح، لأننا لم نعتد على زيارات خارجية في حينا، اتجه شكنا أنه يعيش في بيت مهجور آخر الحي، قد كان ممنوعا علينا الاقتراب منه لأنه غير مكتمل البناء ولربما يسقط علينا أو نصاب فيه بأذى.
وبعد مرور شهرين تقريبا أتت جرافات كبيرة وشعت تحطم البيت المهجور، لم نول الأمر اهتماما فهو بيت لا يسكنه أحد والأفضل أن يهدم، ربما لن نحرم من الوصول إلى آخر الحي ونحن نلعب حين تختفي الحدود المرسومة. مرت شهور أخرى وبني مكان البيت المهجور ذاك بيت آخر غريب بعض الشيء عن بيوت الحي ومساكنه، سكنه ناس جدد، كان لهم طفل في عمرنا لكنه كان مختلفا عنا، فقد استغرق اندماجه معنا وقتا طويلا، ثم علمناه أسس اللعب وعلمنا هو الاخر بعض ألعابه، كان يتقاسم معنا أحيانا بعض الحلوى التي يعطيه إياها والده إحين عودته من السفر، كانت لذيذة جدا لأن طعمها غريب لم نعتد على مثلها، وأيضا لأنها مجانية. بعد فترة توفي أحد جيراننا، كان رجلا عجوزا اعتدنا منه الدعاء والملاعبة، أقيم العزاء وحضره أهل الحي جميعهم، وجاء أبناء الحاج من مدينة أخرى وأخذوا أمهم معهم. لم يمض شهر حتى سكنت البيت عائلة أخرى، هذه المرة كان بها ثلاث أسر لكل منهم طفلان، كبر جمعنا وأصبحنا أكثر، وصار اللعب أفضل، والحلوى وفيرة، إلا أن موضوع الاندماج صار أسهل بفضل الجار الذي سكن البيت المهجور فالأطفال الجدد كانوا يتكلمون نفس لغته ويختلفون اختلافه.
بدأت أكبر مع الوقت والجيران الجدد والأطفال يكثرون ورقعة اللعب تضيق، حتى أصبح أطفال الحي الأصليون شرذمة قليلون، ربما مرفوضون من اللعب ولا يسمح لهم بالمشاركة في كثير من الأحيان، لم نعد نستطيع التدخل لأن أبسط الأشياء لم نعد نعلمها كالحديث واللعب الجديدة. حاولنا اختراع لعب جديدة وحاولنا تكوين جماعتنا الخاصة، لكن في كل مرة يأتي جار جديد، يلعب معنا، نشاركه ألعابنا، ثم يذهب لأبناء عمومته ويدلهم على كل قواعدنا، بعد المرة الألف من تكرار الغلط قررنا ألا نقبل أحدا جديدا بيننا، ما إن رفضنا أول واحد حتى أعلن فريق الجيران الجديد حربا علينا وأصبحوا يضايقوننا ولا يسمحون لنا باستغلال مكاننا إلا يوم السبت أو إذا نودوا إلى بيوتهم _الأمر الذي كان يحدث بكرامة ودعاء وتضرع أحيانا يطلب منا ذلك قيام ليلة كاملة_ استمر الوضع إلى أن أصبحت كبيرة كفاية لألا أخرج من البيت للعب وأبدأ بتعلم أمور التنظيف، الطبخ، الخياطة،... وأصبحت أرافق أمي إلى تجمعات النساء، لم أكن وحدي بل معي فتاتين أخريين كنا أصدقاء منذ الصغر. ذات مرة فتح حريم الحي موضوع الشبح، أو الكهل السمين الذي كنا نخاله شبحا أيام الصغر وقالت إحداهن: "مات عساه يأخذ شره معه"، وسط ذهولنا أنا والبنات، قالت الأخرى " وضع البذور ونبتت"، وأخذهن الكلام من موضوع إلى آخر حتى مواضيع الاقتصاد لم تسلم من مخالب حديثهن. بعد ذهاب النساء كلهن بقيت والبنات نرتب المكان ونغسل الأواني، لم نضيع الفرصة لتحليل المباراة التي دارت بين النساء، خلصنا بعد ساعتين من العمل والكلام إلى أن كرة الشحوم تلك هو سبب وجود الجيران الجدد الذين أصبحوا يعتبرون الحي ملكهم وألغوا وجودنا نحن أصل المكان، حتى كاد معظمنا يغادر جراء الأذى الذي ألحقوه بالحي، لا أخفيكم أنني كنت أكره الجيران بسبب ما يفعله أطفالهم، لأنهم لم يحسنوا التربية. وكان هذا حالنا بعد كل تجمع، ننتظر النهاية ونكون أفكارنا الخاصة، إلى أن غادرت إحدى البنات بعد أن انتقلوا إلى مدينة أخرى وتركوا منزلهم لجيران جدد، لم أحبذ الفكرة، لكن ماذا أفعل؟ الأمر لله، لم أخالطهم ولو أن أمي طلبت مني الذهاب إليهم بوجبة حضرتها للترحيب بهم، لأن هذه العادة مع كل ساكن جديد غير أن السكان الجدد لم تبادر أي أسرة منهم برد الصحون مليئة كما هو العرف أو حتى إعادتها فارغة، كنا كلما أخذنا لإحداهن الوجبة للترحيب اضطررنا أن نعود لطلب الصحون راجين ألا تكون متسخة على الأقل. ظللت وفتاة أخرى فقط، لكن عادتنا لم تنقطع، لازلنا نناقش أحداث الحي وأحيانا الأحياء المجاورة.
ذات يوم عاد أخي إلى البيت وأخذ يكلم أبي، وما هي إلا دقائق معدودات حتى ارتفع صوت أبي، فهمت بعدها أن أخي حاول إقناعه ببيع البيت لولد الكرة السمينة، إلا أن أبي رفض وصرخ في وجهه وقال: "ألم ييأس بعد ما لاقاه الكهل أبوه من رفض مني طيلة سنوات حياته فأتاني هو، ألا يستحي...." وردت أمي قائلة: " ألم تلاحظ أن الحي لم يعد فيه إلا ثلاث أسر من الذين نعرف، حتى البقالة لم تعد كما كانت، ليتنا نغادر كما فعل الجميع" أعلم أنه لا يجدر بي التدخل لكنني قلت أن هذا بيتنا رغم أن الحي لم يعد لنا، لكن لا شيء يمنعنا من البيت، نظر إلي أبي كأنه يقول لي: نعم، تفكيرك صحيح رغم براءته، وساد بعدها المكان صمت طويل. استمر الحال على ما هو عليه إلى أن اخترق الهدوء أمر بإخلاء بيتنا بحجة واهية مفادها أنه آيل للسقوط، كانت هذه أول مرة أرى كذبة مصادقا عليها، عادة عندما أكذب إذا كان الأمر واضحا أعاقب لكن الآن الكذبة واضحة والعقاب لمن لم يصدقها، المعادلة صعبة لكن حلها هو مغادرة البيت، صارع أبي كثيرا لإثبات العكس لكن دون جدوى فاستسلم أخيرا وباع البيت لكرة السمنة _الذي عندما رأيته كان نسخة عن أبيه إلا أنه أقصر منه، لو لمحته من بعيد يتحرك ستحسبه كرة تتدحرج_
انتقلنا لبيت جديد في حي كل من فيه يتكلمون لغة الجيران القدماء، انتظرنا وجبة الترحيب لأسبوع لكنها لم تأت، بعد شهور افتقدت أمي صديقاتها وأخذها الحنين إلى حينا القديم، فتفاجأت لرؤية بيتنا تسكنه عائلة جديدة من الغرباء، حاولت فتح الحديث معهم لكنهم تجاهلوا وجودها وأخذوا يتغابون، خرجت أمي تبحث عن جاراتها ولم تجدهن، سألت فعرفت أنهن تركن الحي، عادت أمي تجر أذيال الخيبة وحكت كل شيء لأبي الذي تغاضى عن الحكاية ونام. بعد مدة أعيدت الكرة وانتقلنا من بيتنا تانية لنفس السبب لكن ثمن البيع كان بخسا لم يسمح لنا بشراء بيت كبير، فاكتفينا بشقة صغيرة، بقينا هناك حتى تزوج أخي وتزوجت أنا بعده، ثم توفي أبي، لكن أمي تمسكت بالشقة تخشى تكرار الخطأ، إلى أن أتى شخص من ذوي اللغة الغريبة _التي تعودنا عليها بعد أن أصبح الكل تقريبا يتكلمها_ وطلب الإيجار، استغربنا لأن البيت ملك لأبينا، لكنه قال أن أبي لم يشتر البيت بل استأجره ودفع أجرة شهرين قبل وفاته، وقد انقضى الشهران، ولأن أخي يسكن بذات الشقة لم يجد حلا غير دفع الإيجار...
بقلم صفاء الزياتي
للمزيد من المنتوجات الادبية المرجو متابعتنا على صفحاتنا @apolomagazineofficial
@moroccan_writers