الغابة المظلمة - لقمان الشماخ



سماء مظلمة وأمطار خفيفة، ذلك النوع من الأجواء الذي يرغمك على الشعور بالحزن، يدفعك بقوة إلى استحضار ألم الذكريات وأكثرها دمارا، كان هناك في آخر الصف وسط غابة النهاية، منتظرا دوره بفارغ الصبر، يتصبب عرقا ويكاد يختنق من فرط التوتر، أسئلة كثيرة تراود عقله المتعب، يحدث نفسه بين الفينة والأخرى متنهدا "هي بضع خطوات ..."، " لم يتبقى الكثير..." ، " سوف أرتاح إلى الأبد ..."، " سأتمكن أخيرا من الضفر بالحياة التي تناسبني..." ، كان ينطق هذه الكلمات وعلى وجهه ترتسم إبتسامة مبللة بدموعه اليائسة، كان ضحية أحاسيسه المتناقضة...

إقترب دوره وبدأ يظهر له في الأفق ذلك الشيء الضخم، إنه قصر شامخ قاتم السواد، كان كبيرا لدرجة لا توصف بباب تبلغ من الطول خمسين مترا على أقل تقدير، بناية مهيبة تدب الرعب في قلب كل من رآها ...، أدار وجهه وألقى بعينيه بعيدا  كأنه يتفادى الخوف الذي استولى عليه في تلك اللحظة، أخذ يراقب تلك الأشجار التي تحيط به من كل جهة، كانت تلك المرة الأولى التي لاحظ فيها إلى أي درجة هي جميلة، ذلك التجانس الفريد الذي يجمع بين البني والأخضر الغامق، استشعر نوعا من الحنين إلى طفولته البعيدة، تلك الأيام التي كان يجلس فيها بالقرب من والده لمشاهدته وهو يرسم إحدى لوحاته الطبيعية المميزة... طرد هذه الخواطر بحركة من يده ثم رفع رأسه عاليا إلى السماء باعتبارها سقف هذا العالم كأنه بهذا الشكل سيكون قادرا على توديع كل شيء في آن واحد ...

فجأة وفي خضم تلك التأملات، انبثق من العدم صوت مرهق ينادي " التالي..."

كان مصدر الصوت عجوز قصير القامة، بوجه تملأه التجاعيد وبلحية قصيرة شعثاء، بمجرد النظر إليه يتضح للمرء أنه ذلك النوع الطيب من العجائز، تلك الطيبوبة التي تهزم كل البشر وتفرض على الجميع الثقة بصاحبها، كان هذا العامل من بين الأسباب الرئيسية التي دفعت كل هؤلاء البائسين إلى الحضور وتكوين هذا الصف الهائل...، إن هذآ الكهل هو بائع الأمل أو المخلص كما يحب الجميع دعوته، قد يبدو ما سأقوله غريبا بعض الشيء لكن واقع البشر أقوى من أن يتم  تكذيبه، كان هذا البائع يستغل لصالحه عنصر المجهول أحسن استغلال، فهو يطلب من زبنائه أموال طائلة مقابل السماح لهم بالعبور نحو مدخل القصر و الدخول إلى الحياة الهنيئة التي تخلو من كل مشكل، وكان قليلا ما يتم مواجهته بالسؤال الذي مر بخواطركم في هاته اللحظة " ولم لا يدخل هو هذا القصر ويكون أول من يعيش هذه الحياة المثالية التي يعد بها؟..."، كان يذرف بعض الدموع الحقيقية ثم يجيب بجملته الشهيرة " لقد تم لعني منذ زمن بعيد، حرم علي دخول هذا المكان وكل ما ترك لي هو هذه الحياة الدنيوية البسيطة"، كان يلحن كلامه هذا بنبرات مؤلمة تجعل السامع متعاطفا معه ومستعدا لتأدية كل ما يطلب منه، خلاصة القول، كان هذا العجوز داهية يترك أثرا في كل من التقى به...

تقدم صاحب الدور وسط هتافات وتصفيقات الجميع، الكل سعيد لخلاصه، عانق العجوز وقبل يديه ثم انحنى لتحية كل من بعده، وضع على الأرض أربعة أكياس كبيرة تملأها الأموال ثم ابتسم حتى ظهرت أضراسه الخلفية، قفز بخفة نحو الداخل، في نفس اللحظة انطلق صراخ هستيري سمعه الجميع...

استقبل الحشد هذا الحدث المرعب بنوع من الترحيب الغير مبرر، فكلما على الأنين ارتفعت معه التصفيقات والضحكات، لوهلة استشعر صاحبنا نوعا من الطمأنينة المجهولة الأصل، ذلك الأمان الذي يخترق تمرد الفرد أمام المجمع أو بالأحرى ذلك الشعور الذي يدمج الغريب رغما عنه ضمن نطاق الإحساس المشترك للعامة،  فالإنسان مهما بلغت دوغمائيته ومهما قدس أفكاره قد يشعر في بعض الأحيان بنسبة من الضعف في مواجهة الجموع وقد يسقط ضحية تناقض داخلي أو سكيزوفرينيا مؤقتة تدفعه إلى التساؤل حول صحة ما اكتسبه منذ خروجه إلى هذا العالم...

تمكن صاحبنا من الاستفاقة من طمأنينته المزيفة بصعوبة شديدة، كانت إنسانيته أقوى من أن يتم إخمادها بهذا الشكل، فتلك الصرخات لم تكن عادية أبدا، ألحان مظلمة تعزفها حنجرة معدمة، صوت كائن تخنفه مشاعر الخوف، الوهن، الألم وبعض الأمل الذي يتجسد في عدم استسلامه وصراعه من أجل البقاء ( أو هذا ما بدى في تلك اللحظة).

 صرخ صاحبنا في وجه العجوز وملامح الصدمة لم تفارقه بعد :" ما الذي يحدث هنا؟، ما سبب هذا الصراخ المؤلم؟ ...

ابتسم العجوز بكل طيبة ثم أجاب: " فلتدعو له، فما هي إلا سعادته بما وجده، يبدو أن ما كان ينتظره قد فاق كل توقعاته، ألا يمكنك سماع مدى سعادته، ألا يمكنك رؤية مدى فرحة الآخرين له، إنني لا ألومه يا بني، ولأكون صريحا إنني أحسده كما أحسدكم جميعا على هذه الفرصة التي أتيحت …



رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم