قصّتين قصيرتين - نور الدين بن بلقاسم ناجي

 



كلّ الحقائب ضاعت


أخذني ظلام دامس إلى وجهك السماويّ؛ أخذتني نشوتي إلى سريرك الخشبيّ؛ أخذتني دهشتي إلى أقلامك الملوّنة؛ تركت في غرفتي جرائد مبعثرة، تركت في لوحتي أكثر من لون لايدلّ على لون بعينه؛ أنا أريد لونك لم أجد لونك؛ لماذا أخذت كلّ الألوان؟ أنا أريد شكلك؛ لماذا أخذت كلّ الأشكال؟ لماذا تركتني دون شكل أبحث عنك في كلّ شكل؟ لم تعد الأشكال هي الأشكال؛ لم تعد الألوان هي الألوان؛ تركت في غرفتي أكثر من قبلة؛ أكثر من لوحة ترسم تفاصيل قبلة تذوب كما يذوب الجليد في مرتفعات الجبال؛ كم علّقت صورتك على ذلك الجدار الأماميّ؛كم تسلّقت ذلك الجدار الخلفيّ؟؛ كم سقطت من أعلى الجدار أبحث عن صورتك في أسفل الجدار؟ حيث تركت العنكبوت يحرس اللّوحة؛ حيث تركت الأقلام الحمراء؛ حيث تركت الأقلام السّوداء؛ حيث تركت حزني؛ حيث تركت صمتي يدلّ على صمتي؛ حيث تركت جسدي يخاطب جسدي؛ حيث تركت دون أن تترك أيّ شيء؛ أيّ ذكرى تدل على ذكرى؛ أيّ قصّة تدل على قصّة أو أيّ لون يدلّ على لون محدّد أو أيّ حبّ يدلّ على أجمل حبّ وقد تحصّن وراء بيت العنكبوت؟

   تركتني أنهض من فراشي وسط فراشي مذعورة؛ أصابني حياء كبير؛ خلت أنّ الحافلة مرت من هنا؛ خلت أنّ وجهك الخرافيّ بقي هنا؛ خلت أنّك عدت بعد سفر طويل؛ عدت بعد حبّ غاب مع النّجوم والقمر؛ ربّاه ما شكل السّماء وما لون القمر؟ لم أجد طيورك في السّماء؛ أين تركت نشوتي؟ لماذا هجرت السّماء؛ لم أعد أراك في أقصى السّماء تعبد النّجوم والقمر؛ أين تركت تذاكر سفرك؟ لم أجد بقايا سجائرك؛ لم أجد بقايا جرائدك وسط المسافرين؛ لم أجد بقايا عطرك بين المودّعين؛ كلّ الوجوه تغيّرت؛ كلّ الرّكاب غادروا مقاعدهم؛ كلّ الحقائب ضاعت؛ كلّ المحطّات فارغة من الفرح؛ كلّ الصّحف فارغة لأنّها لم تنشر إسمك وصورتك و مدينتك؛ لم أجد فيها بلاغا يشير من قريب أو من بعيد إلى ضياعك؛ كل الأخبار كاذبة لأنّها لم تأخذني إليك؛ حيث سافرت دون حبّ تبحث عن حبّي أو دون فرح تبحث عن فرحي؛ هكذا أجمع ما بقي من تلك الجرائد أو الأفكار؛ أو ما بقي من تلك الألوان دون أن أعرف أيّ لون تحبّ؟؛ أيّ تمائم  تريد؟ أيّ أنثى تحبّك في آخر الطّريق؟ أيّ لوحة فيها ضفائر تختار؟ هكذا أجمع ما بقي على فراشي من نشوة كلسان الشّمعة في صفاء الدّمعة؛ أتخيّل أنّك تقترب من شرفتي... من سريري؛ لا أملك إلاّ أن أتخيّل أنّك تقترب من لوحتي؛ تقترب من أشعاري؛ أشعر أمام لوحتك المعلّقة بعناية... أمام صورتك المقدسة في غرفتي بارتباك خفيف؛ أتململ في فراشي؛ أنهض نحو مرآتي حيث أراك دون أن أراك؛ حيث ألقاك دون أن ألقاك؛ أختار لك أجمل الألوان؛ أختار لك أجمل الأشعار؛ أجمل الاحلام؛ أنظر من وراء زجاج النّافذة المبلّلة بالحبّ إلى أمطار الخريف تسقط كما تسقط نشوتي في نهر فاض من الدّموع؛ بدءا سقطت من فوق الجواد؛ لم أطلب النّجدة؛ كان السّقوط على الفراش خفيفا كرذاذ المطر في الصّحراء؛ كسّرت الزّجاج؛ بحثت عن ثقب صغير أرى من خلاله أثرا تركه ذلك الجواد يعدو بين النّهدين أو بين النّهرين وقد ابتلع في جوفه تلك الصّحراء؛ أخيرا بعد جهد جهيد وجدت أثرا كالجرح في اللّسان؛ نعم وجدت حبّا كحبّات العنب في هضاب الصّحراء؛ وجدت أكثر من ثقب في شرفتي أرى من خلاله لوحتك الكبيرة؛ حيث تركت أجمل حبّ في الوجود؛ حيث تركت خيولي تنتظرك؛ حيث تركت صهيلا كالأغنيات فوق سريري؛ ألا تفهم نداء خيولي؟ الاّ تحسّ أنّي أحتاجك في هذا الظّلام الكثيف؟ ألا تفهم أنّي أحتاجك في هذا الوقت المتأخّر من اللّيل؟؛ ألا تدري أنّي صرت لا أحبّك إلاّ في هذا الوقت المتأخّر من الذكرى؟؛ ألا تدري أنّ أسرار الحبّ تبقى معنا إلى وقت متأخّر من الذكرى؟ كان الظّلام حالكا بحيث لم أستطع أن أتبيّن فيه ملامح وجهك؛ عفوا ملامح حبّك؛ عفوا ملامح صمتك؛ عفوا ملامح نشوتك؛ ضاعت عيناك في الظّلام؛ حاولت جاهدة أن أتفحّص كلّ الأشياء التي أخفيتها في غرفتي...في حقيبتي وقد ضاعت حقيبتي؛ أنت أخفيت حبّي؛ أنت تركت غرفتي؛ أنت أخذت أدباشا نشرتها في شرفتي؛ انت أخذت جرائدي؛ أنت تركت أبقاري ترعى دون طمأنينة؛ أنت تركت أزهاري دون ماء تحتاج إلى الماء؛ أنت تركت جسدي دون نشوة يشتاق إلى النّشوة قبل خروج النّشوة؛ أنت تركت جسدي دون ذكرى يحتاج إلى الذكرى؛ لماذا فكّرت أنّك ستأتي في هذا الظّلام؟ لماذا فكّرت أنّك أنت من طرق باب غرفتي في ساعة متأخّرة؟ لماذا فكّرت أنّك أنت من أحتلّ أرضي وأخذ أبقاري؟ لماذا أحسست أنّك أنت من رسم اللّوحة؛ لماذا فكّرت أنُك أنت من أختار الألوان؟ لماذا أحسست أنّك أنت من طرق الباب؟ كانت الطّرقات متتابعة و خفيفة كرذاذ المطر في الصّباح الباكر؛ كانت اللّحظة قويّة كدويّ الرّعد يزلزل النّوافذ القديمة؛ أو كصوت الريّاح وسط الرّياح يدغدغ الأشجار والأنهار؛ ليتني كمل قال أحد الشعراء" وردة حوريّة في حديقة ما يقطفني شاعر كئيب أواخر النّهار...أو حانة من الخشب الأحمر يرتادها المطر والغرباء" أنت من أمر العنكبوت بأن يحرس باب بيتي؛ أنت فنّان مجهول أراد أن يرسم في لوحتي جنّة وراء البحر؛ صرت أحبّ ركوب الخيل بحثا عنك؛ صرت أحبّ ركوب البحر؛ صرت أغرق... إنّي أغرق... الحبّ عشبة بحريّة لا تنبت إلاّ في أعماق البحر وسط المحيط؛ نعم هي عشبة لا تنبت ولا تتنفّس إلاّ تحت الماء؛ ومن الصّعوبة بمكان تصنيفها وسط تلك الأعشاب الطفيليّة الأخرى؛ حبيبي كلّ العشّاق لا يلتقون إلاّ  في اللّوحة؛ لا يلتقون إلاّ في ساعة متأخرة وقد هجمت العاصفة البحريّة؛ كلّ العشّاق لا يلتقون إلاّ في ساعة متأخّرة من هبوب العواصف الثّلجيّة؛ هم يسكنون في منطقة نائية بين النّهدين على  مفترق يجمع بين جبلين من الحبّ؛ كلّ العشّاق ينهضون في ساعة متأخّرة من الذكرى؛ كلّ العشّاق ينامون ولا ينامون؛ حبيبي أريد أن انام معك وسط شرفتين تطلاّن على مرتفعين جبليين إلى ساعة متأخّرة من الحبّ يصعد بك إلى الشّرفات؛ أريد أن أنام معك إلى ساعة متأخّرة من الفجر؛ أريد ان أنام معك إلى ساعة متأخّرة من طلوع الفجر أو طلوع النّشوة؛ صرت أفكّر لماذا أريد تحقيق كلّ شيء معك؟ صرت أفهم ولا أفهم لماذا ينهض العشّاق إلى الصّلاة قبل موعد الصّلاة؟ أغلبهم ينهض قبل الوقت المخصص للذكرى؟ لماذا يصفّقون ويفرحون ويغنّون قبل الوقت وأحيانا خارج الوقت المخصّص للحبّ؟؛ معك مات الوقت؛ معك بدأ الوقت؛ أنا معك؛ ولكن لا أفكر أنّي معك؛ أنت من أعطاني شعورا بأنّ الحبّ يأتي في وقت خارج الوقت؛ يأتي في ساعة خارج السّاعة قبل قيام السّاعة؛ كلّ العشّاق يكرهون الوقت ويفكّرون خارج الوقت؛ اقتربت من سريرك الخشبيّ؛ تظاهرت أنّي أبحث عن شيء ما أعرفه ولكنّي أعرف أنّك لا تعرفه؛ تظاهرت أنّي أعرفك؛ تظاهرت أنّي رأيتك فعلا؛ فعلا رأيتك تخرج من ثقب تركته في نافذتي؛رأيتك تجمع الحبّ وسط تلك الأعشاب البريّة؛ رأيتك بصعوبة تخزن نشوتي في تلك الغيران الرمليّة... أخذت قوتي... نظراتي كما تأخذ تلك النّملة البريّة طعامها وطعام صغارها قبل هبوب العواصف الشتويّة؛ أخيرا رأيتك تداعب خصلات شعري؛ تصنع منها أزهارا لنا؛ تصنع منها عمرا لنا؛ تحتاج الأنثى في أجمل العمر إلى عمر آخر حتّى تتنفّس؛ حتّى تموت معك؛ حتّى تموت من أجلك؛أردتك معي؛ في غرفتي؛ أنا وأنت وشيء من تلك الذكرى؛ وشيء من تلك النّشوة على سريري؛ زاد الظّلام ؛ زاد الشّوق؛ زاد العمر؛ لم أتبيّن تفاصيل يديك تعبر جسدي؛ تعبر باب غرفتي؛ تسرق مفتاحي؛ تسرق أحلامي؛ تسرق لوحتي؛ لم أفكر معك أن أغلق باب غرفتي؛ لم أفكر معك أن أنظر إلى الوقت؛ نحن نسير مع الوقت دون وقت؛ نحن نحبّ مع الوقت وخارج الوقت؛ نحن لا نفكّر من نحن؛ نحن لا نحسّ من نحن؛ إلاّ حين تلتقي العين بالعين ويذوب الكتف في الكتف؛ بعد العين؛ بعد الحبّ؛ بعد الفجر؛ رأيتك في الفجر؛ كلّ العشّاق يخرجون فجرا؛ يصلّون؛ يرقصون رقصا نائيّا رقيقا كالحبّ يتجمّع في أعماق النّفس؛ فكّرت لماذا لا نصلّي مع ذلك العنكبوت؟ فكّرت لماذا لا نرقص مع هؤلاء الصبيان؟فكّرت لماذا لا نغني في ذلك العرس؟ فكّرت لماذا أتيت في هذا الوقت المتأخّر من الحبّ؟ فكّرت لماذا أتيت بعد الرّقص؟ لماذا أتيت بعد الصّلاة؟ لماذا أتيت بعد الحبّ؟ بعد ذكرى الحبّ صرت أحبّك. حتّى الغرفة تحبّك؛ حتّى النّملة احتفظت بحبّك؛ لم تخرج من غيرانها؛ حتّى الفجر رفض أن يتسلّل إلى فراشي؛ حتّى الفجر هو الفجر؛ حتّى الأشياء هي الأشياء؛ حتى الظّلام هو الظّلام؛ حتّى الديكة هي الديكة؛ هي تؤذّن كلّ صباح تطالب بتحقيق نشوتي؛ انتهى الحلم عندما سلب أحد الديكة من الدجاج نشوته الأخيرة؛ ثم عاد إلى أرضه عودة الملوك يطأ الثّرى مترفقا في مشيته بهدوء؛ ترى لماذا يصرّ الدّيك على تحقيق النّشوة فجرا؟ هل فعلا يطلب منّا العودة إلى الصّلاة؟؛ ألا ينبّهنا إلى حقوق ضائعة قبل وقت الصّلاة؟؛ جعلني الدّيك أفقد التّفكير؛ أصبحت أتفلسف ؛الدّيك لا يصيح إلاّ مع الفجر أي مع وقت النّشوة؛ أي مع وقت العبادة؛ وأنا لا أحبّك إلاّ فجرا مع وقت النّشوة؛ أي وقت العبادة؛ تلك رهبة ممتعة؛ نبّهني الدّيك إلى موعد قادم معك؛ مع اللّذة لا تخرج إلاّ في الصّباح؛ مع الرّوح لا تفارق الجسد إلاّ بعد وقت العبادة في أوّل المساء؛ بعد عصرين أو ثاني مغربين .                                       


صعقات الكهرباء


أحيانا تنقطع خيوط الحبّ عن ذاكرتي كما تنقطع خيوط الكهرباء عن حجرتي، أتذكّر متى انقطع الكهرباء عن بيتي، لكن لا أتذكّر متى انقطع حبّك عن قلبي، تسلّقت كلّ أعمدة الكهرباء حتّى تعود الذكرى إلى الذكرى تتسلّق جدران غرفتي، أنا أرفض الظّلام الدّامس، كم صعقني الكهرباء في حجرتي، كم صعقني الحبّ في فراشي، صعقات الحبّ أقوى من صعقات الكهرباء، صعقات الذكرى وسط الذكرى تشبه صعقات البرد في الشّتاء،  أحتاجك في كلّ شتاء، قتلني البرد بعد فراقك في أوّل ذلك الشّتاء العاصف بالأشواق وقد تهاطلت على فراشي كأنّها الأمطار.... أحتاج إلى أكثر من عاصفة وسط عاصفة هوجاء حتّى اقترب من دفء وسط دفء يتخلّله دفء الموقد وهو يشتعل بالذكريات في غرفتي المهجورة تطلب نشوتك مع الفجر وخلال الفجر؛ شدّني أنّ ذلك الحطّاب في أقصى الجبال وسط الجبال لا طموح له إلاّ أن يقتلع الأشجار من جذورها الأولى في تلك الغابة الكثيفة؛ شدّني أنّ تلك الأنثى وهي في أقصى الظّلام وسط الظّلام لا طموح لها إلاّ أن تستأصل نشوتك وسط نشوتك الأولى تسكن في أقصى الفراش؛ ازداد البرد؛ نزل الثّلج بكثافة على الشّرفات؛ كلّ العواصف التي دكت أركان بيتي أو أركان فراشي هي من نوع العواصف الثّلجيّة التي يذوب فيها العاشقان كما تذوب الثلوج على الجبال في المساء؛ يطلب ذلك الموقد وقد احمّار كالغروب وسط الغروب في غرفتي الحطب؛ مثله كمثل ذلك الجسد وقد اصفّار كالشّروق وسط الشّروق في فراشي يطلب أول دمعة في الحبّ؛ فجأة غاب عن ناظري ذلك الحطّاب؛ ابتلعته الغابة؛ خشيت أنّه وقع في مكروه؛ لماذا تركني في الغابة وسط الغابة دون أشجار أتسلقها دون أحلام أنهض عليها؟ صرت أحسّ أنّي أميرة خرافيّة الوجود في تلك الغابة لأنّي وقعت في حبّك على طريقة ذلك الحطّاب يجمع الدفء وسط الدفء من أشجار لا توجد إلاّ في تلك الغابة وقد كستها الثّلوج؛ نعم صرت على طريقة هؤلاء العشّاق يهيمون كالغجر يرحلون من ماء إلى ماء أو من حبّ إلى حبّ وقد تركوا بعد رحيلهم إلى "جبل العشّاق" أو "جبل الرّهبان" نظرات وسط نظرات هي  بعدد الأزهار والأشجار والأطيار في تلك الجبال، كم أحسست أنّك تآمرت في الفراش ضدّي؛ قطعت أشجاري من جذورها الأولى؛ طردت أطياري من أعشاشها؛ لماذا هجرت غرفتي بين فجرين أو بين نظرتين بحجم نشوتين صاعقتين؟ لماذا تركت جسدي يحترق وسط نظرتين لا يستطيع الخروج من نظرتين؟ أحتاج حتّى أقطع المسافة إليك مسافة فاصلة بين نظرتين عابرتين؛ تخترقان متاهات وسط متاهات قادتني إليها مسالك بريّة ضيّقة في تلك الغابة وقد حجبتها الطّيور الرّاقصة؛ أحتاج مسافة فاصلة بين نظرتين عموديّتين أو أفقيّتين؛ ومن غرائب ما قال ذلك الحطّاب أنّه يحتاج إلى البرد حتّى يستطيع أن يقدّر المسافة الفاصلة بين العاشقين يحتضران على فراش الموت وهم يواجهون سكرات الموت، أحتاح إلى الدفء حتّى أحبّك؛ أنت لا تفهم؛ صار انقطاع الكهرباء أمرا معتادا في كلّ البيوت، لكنّ انقطاع اللّذة في فراشي وسط فراشي أمر غير معتاد، ماهو معتاد غير معتاد إلى درجة معتادة، أشعلت الشّموع على أمل أن يعود الكهرباء مبكّرا إلى غرفتي، أشعلت شموع الحبّ على أمل أن تعود النّشوة الى فراشي، طال انتظاري، بكت شموعي كثيرا، صارت طيورا تحلّق فوق أعمدة الكهرباء، أعطتني الطّيور الرّاقصة حبّا غامض الملامح، غريب الأطوار، حبّا أعرفه إلى درجة لا يمكن أن  أعرفه، هو حبّ في شكل نور وسط نور خافت كالبرق أو كالرّعد، يشقّ ظلاما دامسا، عرفت أنّك قادم، عرفت أنّ الحبّ كالكهرباء عاد إلى جسدي.

     بعد وقت طويل تمّ إصلاح العطب الفنيّ، فرحت لأنّ طيور الحبّ عادت إلى غرفتي تحلّق في غرفتي المظلمة منذ غيابك، اعتذر الأعوان عن التّأخير في إصلاح الخلل التّقنيّ، قالوا لي بأنّ العطب كان في العمود الكهربائيّ المجاور لبيتنا، لحبّنا، لم أقبل اعتذارهم بسهولة لأنّهم لم يستطيعوا تحديد أسباب الخلل الفنيّ بدقّة، لقد كان العطب في بيتي، تحديدا في غرفتي... في فراشي... في جسدي دون نشوة...في قلبي دون حبّ؛ أحسست أنّ الخلل في قلبي وقد توقّف قلبي، أحسست أنّ الحبّ طائر خرافيّ يحلّق من مكان إلى مكان، يتحوّل من عمود إلى عمود آخر، هو طائر يراقب المسافة الفاصلة بين العشّاق في طريق عودتهم من السّماء وقد أعجبتهم السّماء... أو في طريق رحلة الحجّ يبحثون عن حبّ ضائع تسلّل خلسة إلى قلوبهم وسكن دون إذن بيوتهم، هو طائر الحبّ، يجازف، يغامر، يحلّق فوق كلّ أعمدة الكهرباء، لا يخشى في أثناء بحثه عن وجهك الأسمر أن يصعقه عمود كهربائيّ، هو لا يخشى الكهرباء أصلا؛ هو لا يخشى سقوط الصّواعق فوق بيته لأنّ الحبّ مخلوق من صواعق...من كهرباء، شعرت أنّ حبّي لك قد يعتريه العطب في أيّ لحظة من اللّيل، في أيّ لحظة من النّهار، كلّ عاشق يحسّ أحيانا بأنّ القلب قد يتعطّل... قد يتوقّف عن الخفقان كما تخفق الدّمعة على القبر إلى الأبد في أيّ لحظة ما دون إحساس ما بالحبّ ينبض نبضا بالغ الصّدق والحرارة، نعم ينقطع الكهرباء عن غرفتي عندما ينقطع الحبّ عن جسدي، كم فسّرت لأعوان الصّيانة أسباب الخلل؟ كم شرحت لهم أسباب تلك الصواعق فوق بيتي...في قلبي؛ لم يفهموا أنّها تعود إلى عوامل بشريّة... منها أسباب الحبّ؟ منهم من اقتنع بأنّ الخلل في القلب...في دوافع الحبّ، ومنهم من أرجع ذلك إلى أسلاك الكهرباء، حقّا في الحبّ عدّة أسلاك معقّدة و شائكة، المهمّ أنّي فسّرت ما لا أستطيع أن أفسّره أكثر من ذلك، المهمّ أنّي أصلحت العطب بمفردي، الخلل في غرفتي... في قلبي...الخلل في الطّيور المهاجرة وقد حلّقت فوق بيتي، حلّقت دون إذن منّي، دون موعد سابق مع الحبّ، لكنّها وهي تحلّق تركت في السّماء عدّة بصمات تدلّ على أنّي عاشق سماويّ وقعت في الحبّ الصّاعق إلى ما لا نهاية، كلّ الأشياء لها نهاية، إلاّ الحبّ لا نهاية له، ولذلك احتفالا بعودة الكهرباء إلى حجرتي، احتفالا بعودة النّشوة إلى فراشي أدعو كلّ الطّيور إلى أن تحلّق فوق بيتي، أدعو كلّ العشّاق أن يعودوا إلى شرفة بيتي، اتركوا الشّموع تبكي أو تفرح من شدّة السّهر إلى ساعة متأخّرة من النّشوة وسط النّشوة تحت أعمدة الكهرباء، هي لا تتكلّم، هي تصرّ على أن تقف في مكانها تنظر إلى مكانك داخل مكانك إلى وقت غير محدد دون مبرّر؛ ربّما وضعوها صدفة أمام بيتي حتّى تعترض سبيلك وأنت تبحث عن بيتي؛ هي لا تغادر مكانها مازالت في مكانها. هي ترفض أن ترتدي ملابسها، خلعت في هذا اللّيل كلّ نشوتها، صارت دون نشوة.. تبحث عن تحقيق نشوة.

       أهملت ما قاله الكهربائيّ، حافظوا على أعمدة الكهرباء في الطّريق فهي ملك عموميّ، اقتصدوا في مخزون الطّاقة، لم اقتنع بما قاله، هو لا يعرف أنّ الحبّ ملك شخصيّ، هو لا يعرف أنّ الاقتصاد في الحبّ يقتل الحبّ نفسه، تلك الأعمدة لها طاقة شحن أخرى، هناك طاقة أخرى خارج المجال الجويّ الذي نعيش فيه، طاقة نوويّة مدفونة في أعماق الأرض، في أعماق النّفس، كم ضاعت من طاقة وسط طاقة لم يكتشفها العلماء؟ كم ضاع من حبّ وسط حبّ آخر؟ كم بنى العشّاق على أرضهم من مفاعلات نوويّة؟ كم منعوا من امتلاك تلك الطّاقة؟ من حقّي أن أمتلك تلك الطّاقة، من حقّي أن أحبّك، من حقّي أن أصنع حبّا نوويّا أهدّد به كلّ من يعتدي على أرضي؟ أعترف لكم أنّي أملك مفاعلا نوويّا يمكن أن أهدّد به كلّ من يقترب من بيتي؛ أجريت على صعيد الحبّ عدّة تجارب مخبريّة ناجحة بموجبها تمكنت من تخصيب مادة اليورانيوم؛ هي مادة محظورة شديدة الانفجار؛ لا يفوقها من حيث القوّة إلاّ حبّي النوويّ لك؛ صار سلاحي من الحبّ عابرا للقارات؛ صرت أعيش في دولة نوويّة لها سيادة مطلقة على حدودها التي تبدأ شرقا من غرفة الاستقبال وتنتهي غربا إلى غرفة نومي؛ في الحبّ أكثر من طاقة منجميّة؛ أنا أملك كلّ الثّروات المنجميّة؛ في الحبّ أكثر من طاقة معدنيّة؛ أنا أملك كلّ الثّروات المعدنيّة، في الحبّ ذرّة نوويّة لم يكتشفها العلماء، اكتشفها العشّاق، في الحبّ طاقة مغناطسيّة، أليس ذلك الحبّ وهو من سلالة منجميّة ومعدنيّة ونوويّة أهمّ  اكتشاف علميّ يفتخر به العشّاق؟ 

   في الحبّ هناك مبدع وإبداع وتقبّل، ألا يدلّ عمود الكهرباء على أكثر من مبدع؟ لماذا هو صامت منذ سنين؟ ألم يكن الصّمت أو الإضراب عن الكلام هو أرقى أشكال الإبداع البشريّ؟، وصل العلماء إلى القمر لكنّهم لم يصلوا إلى كوكب آخر لا يعيش فيه إلاّ متقبّل واحد، لا يعيش فيه إلاّ إنسان آخر، هو  عاشق، لماذا منعوه من استخدام الطّاقة؟ لماذا منعوه من الإبداع أو الخلق والابتكار على طريقة العلماء؟ لماذا فكّروا في قتل كلّ عالم نوويّ؟ لماذا فكّروا في قتل كلّ عاشق عذريّ؟ كلّ العشّاق يمتلكون أسلحة محظور استعمالها؛ هي من أسلحة الدّمار الشّامل، الحبّ سلاح نوويّ، أنت من أخذت طاقتي، أنت من اخذت جسدي، أنت من عذّبتني بالكهرباء.

   لم ينتبه أحد العشّاق في طريق عودته من الذكرى داخل الذكرى أنّه فقد كلّ طاقة داخل طاقة على الحبّ لأنّهم منعوه من حقّه المكتسب في امتلاك الطّاقة النوويّة، فكّرت أنّ كلّ طائر بريّ حلّق في السّماء؛ أو حطّ فوق كلّ عمود كهربائيّ هو عاشق مات بسبب صعقة كهربائيّة بقوّة البرق، بقوّة الرّعد، بدت تلك الأعمدة الواقفة دون سبب واضح كالأعلام السّوداء في البحر، تطلب النّجدة، تطلب الحبّ، من نكس تلك الأعلام في البحر؟ من أطفأ تلك الأضواء في الطّريق؟  من أطفأ تلك الأحلام في الفراش؟ من أشعل تلك النّجوم في السّماء؟ من أعطاهم الأمر بأن يقطعوا عنّي التيّار الكهربائيّ؟ فكّرت أنّ أصعد إلى كلّ أعمدة الكهرباء حتّى أصلحها، فكّرت كم وقعت في صعقة كهربائيّة بحجم حبّ صاعق؟ فكّرت كم وقعت في حبّ لم أعرفه، لم أجده، فكّرت كم صعقني الكهرباء؟ كم صعقتني الذكرى؟ كم صعقني من شخص وسط شخص لايشبه في شخصه شخصا من الأشخاص وقد التقيته صدفة؛ صدفة صعقني التيّار الكهربائيّ؛ صدفة صعقتني بنظرة وسط نظرة على حدود بريّة مترامية الأطراف طائشة؛ صدفة تسلّلت إلى أنحاء جنوبيّة وشماليّة من جسدي؛ شاركت دون إرادتك في الحرب؛ بدأت العمليّات العسكريّة مع الفجر؛ قمت بإنزال بريّ استهدف مناطق حسّاسة من جسدي؛ بعد ساعات أعلنت انتهاء العمليّات البريّة؛ توغّلت في أرضي شرقا وغربا؛ أخذتني أسيرة لا أملك إلاّ حبّا من نظرة واحدة؛ مع اللّيل بدأت بإنزال جويّ؛ استهدف القصف المركّز والموجّه عدة مفاعلات نوويّة تحمل طاقة لا متناهية من الحبّ؛ أطلقوا على تلك العمليّة عنوان "الفجر الأحمر"؛ وقد برّر أحد جنرالات الحرب ذلك الهجوم الشّامل على جسدي بأنّ  الحبّ من أسلحة الدّمار ممنوع امتلاكه في غرفتي؛ أرادوا بدعوى المحافظة على اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النوويّة استئصال الحبّ وسط بيتي؛ أرادوا أن يختبروا أسلحتي؛ ترك القصف الجويّ عدّة انفجارات؛ أبديت مقاومة باسلة وأنا أستقبل نظراتك كرصاص مذاب على صدري؛ أعطتني نظرتك في الميدان و قبلتك في الفراش إحساسا بأنّي أعيش معك في

 دولة عظمى؛ كم مرّة أردت أن أكتشف بطريقتي الخاصّة قوّة الحبّ بين العشّاق فلم أجد أقوى من سلاّح العين بالعين أو السّيف بالسّيف؛ هو سلاح فتّاك يعبر كلّ القارات؛ كم تركت على فراشي من نظرات تتخلّلها عدّة نظرات ثقيفة تعبر بالعشّاق إلى أبعد القارات؛ يسكن حبّي لك في أقصى قارة وسط القارات؛ هي قارة لا يسكنها إلاّ هؤلاء العشّاق؛ هم  أوّل سكان الأرض وقد أثبتوا دون غيرهم بالوثائق التّاريخيّة أنّهم من سكان الأرض الأصليّين؛ هم أول من رفض عبادة الأوثان؛ هم أول من اكتشف قانون الجاذبيّة؛ أنا سقطت كما يسقط السّلاح؛ أنا سقطت كما تسقط الثّمار النّاضجة في بستانها تتحرّر من عبوديّة في أشجارها؛ العشق ثمرة من ثمار الأشحار النّادرة؛ تثمر الأشجار على مدار السّنة مرّة واحدة؛ تثمر شجرتي في بستاني مع تجدد كلّ نظرة خارقة أو عابرة لها؛ أنظر كم سقطت من نظرة...انظر كم سقطت من ثمرة لها طلع نضيد؟ وقد تأكدت بعد سقوط النظراتأو الثمرات بأنّ العشّاق هم أول من اكتشف الأرض والبحر والجبال والأنهار؛ هم أوّل من غرس الورود فوق الأرض؛ هم آخر الطّيور فوق البحر وقد فارقوا البحر؛ هم آخر الطيور فوق الأرض وقد فارقوا الأرض؛ هم آخر الطّيور فوق الجبال وقد فارقوا الجبال؛ هم كما تشير بعض الابحاث البيولوجية في علوم الأرض انقرضوا في وجودهم كما تنقرض بعض الطيور أو الورود النّادرة في وجودها النّادر إلى الأبد؛ ربّما لأنّه لم يعجبهم معنى وجودهم دون إثبات وجودهم من عدمهم؛ هم أوّل من خلق أسلحة ذات استعمال سلميّ؛ هم أوّل من دعا إلى اتفاق نوويّ شامل تعترف بموجبه أمامي بقوّة سلاحي على الأرض؛ عفوا على الفراش عندما تلتقي العين بالعين وتذوب قبلتي في قبلتي؛ أخطر تجربة خاضتها تلك الجنديّة الانتحاريّة على فراش جسدها؛ عندما فكّرت أن تقيس قوّة ضغط حبّها لك بقوّة ضغط أسلاك الكهرباء في حجرتها؛ وقد دخلت في تلك التّحربة أكثر من مرّة حين وضعت جسدها في ساعة متأخرة من الذكرى بعد احتدام المعارك في غرفة نومها على أسلاك كهربائيّة صاعقة جدا؛ وقد اعتادت على تلك الضّربات وراء الضربات؛ أصبح جسدها يتضمّن مادة عازلة للكهرباء؛ لم تعد الصّعقة المهربائيّة تعني لها من شيء وهي تحسّ بأنّها تحبّك؛ لم تجد أقوى من تلك الطاقة الحراريّة وسط تلك الطاقة المغناطيسيّة حتّى تنهار أمامك إلى الأبد في آخر معركة وهي ترفع السلاح معلنة الاستسلام؛ لم تجد في الحرب ضدّك أقوى من خيوط الكهرباء إذا لمستها أحسّت أنها اقتربت منك؛ أي صعقتك؛ نعم لم تجد في الحبّ أقوى من أسلحة الدمار الشّامل حتّى تعترف بقوّتها إلى الأبد؛ بعد صعقات الحبّ أو صعقات الكهرباء؛ قال مستسلما: أحبّك...أحبّك؛ تركني أواجه الحبّ وحدي تحت تأثير أكثر من نظرة كهربائيّة أو صدمة كهربائيّة وقد أدّت إلى حرب نوويّة انخرط فبها كلّ العشّاق.

      بعد وقت من الذكرى تتوسطها ذكرى لاتدلّ على ذكرى بعينها جاءتني فاتورة تقديريّة في الاستهلاك، رفضتها لأنّها لا تعكس حجم ما استهلكت من حبّ أو طاقة لا تقدّر بثمن؛ لم يتمّ خلاص تلك الفاتورة الوهميّة؛ وقد سجّلت اعتراضا في شأنها كما طالبت الجهات الفنيّة المختصّة بفحص العدّاد الآليّ حتّى يتأكّدوا من سلامته؛ هو عدّاد قديم مهمل... معلّق على ذلك الجدار كأنّه لوحة فقدت مع الزّمن براءتها وبراعتها؛ لقد أعلمتهم بأنّ ذلك العدّاد لم يعد يتحمّل صعقات البرد في الشتاء؛ لم يعد يتحمّل نظرات العشّاق في الصباح؛ سكنه عنكبوت بريّ نسج عليه عدة خيوط حجبت حبّي لك؛ تعرّض حبّي لك بفعل فاعل إلى التّخريب والتّحريف؛ طالبت تلك الجهات بحقّي في عدّاد استثنائيّ يستجيب إلى حبّ استثنائيّ بمواصفات خاصّة؛ قوّته بالتّأكيد تنسجم مع حبّ مثل نسيج العنكبوت سكن قلبي؛ وقد أثبتّ لهم بعد نقاش طويل براعة ذلك الحبّ العنكبوتيّ؛ يبدأ من العين ويتسرّب خفية إلى القلب ثمّ يتداعى كامل الجسد؛ جسدي هو مصدر طاقتي على حبّك؛ العدّاد الآلي مزيّف؛ لا يمكن أن يتحمّل ضخّات قلبي المتتابعة؛ أرجوكم افحصوا قلبي؛ اتركوا ذلك العدّاد الوهميّ لأنّه يخدعكم؛ هو لا يعطيكم الحجم الفعليّ لما استهلكته في حياتي من طاقة تدلّ على حبّ فعليّ؛ أعترف لكم أني زوّرت العدّاد أكثر من مرّة؛ عزلت الأسلاك عن بعضها؛ نعم عزلت النّظرات إليك عن بعضها؛ تركت أكثر من مسافة حبّ تتخلّله نشوة تدلّ على نشوة فاصلة ببني وبينك وقد يسبّب لكم ذلك التّزوير المتعمّد على مدار السّاعة واليّوم والشّهر والسّنة خسائر كبيرة وفادحة لا تقدر لكم بثمن؛ أنا أتحمّل كلّ الخطايا النّاجمة عن ذلك التّزوير في المشاعر؛ أنا سأدفع الثّمن وحدي لأنّ العدّاد الآليّ وقد غمرته الأتربة لم يعد يتحمّل ما أخزّنه لك في داخلي من طاقة على حبّك؛ أنا أطالب الجهات المختصّة برفع ذلك العدّاد الوهميّ؛ ضعوا قلبي وهو يخفق حبّا فوق ذلك الجدار حتّى تعرفوا حجم الخسائر التي وقعت فيها طيلة انتظاري لك؛ وقد رفضت أن أعطيهم أرقام العدّاد وقد تعرّض الى أكثر من عمليّة إرهابيّة؛ لم تكن مشاعري مجرد أرقام جوفاء لا تعني شيئا؛ بل كانت قوّتها في قوّة أسلاك كهربائيّة شائكة جدا؛ وقد أعطيتهم بمرور الوقت فاتورة يخضع فيها حجم الاستهلاك إلى قدرة قلبي على ضخّ المشاعر وسط نهر يفيض بالمشاعر.

   كانت تكاليف الصّيانة والإنارة مجحفة جدا، لم أعترض عليها لأنّي وقعت في تكاليف حبّ معدنيّ مجحف، أو لأنّي استهلكت أكثر من حبّ معدنيّ، أو حسب تقرير أجهزة الاستخبارات أكثر من ذكرى توازي في قيمتها أثمن المعادن من الذّهب، لقد تجاوزت السّقف المحدد للاستهلاك المحدد، دفعت فاتورة الاستهلاك، عفوا فاتورة الحبّ من ذهب أكثر من مرّة، لم أكن منزعجة لأنّ فاتورة مشاعري كانت باهظة، بل كنت مفتخره بذلك لأنّ الحبّ الذّهبيّ ثمنه باهظ، لا تهمّ التّكاليف، المهمّ أنّي أحبّك، لا تجعل طاقتك في الحبّ، طاقتك على الخلق والابتكار مدفونة تحت التّراب، فجر طاقتك على الحبّ؛ اترك أعمدة الكهرباء تشتعل على فراشك اللّيليّ؛ خزّن طاقتك في الإنارة إلى أيّام الشّتاء؛ اقتصد مثل تلك النّملة التي لا تفكّر إلاّ في تأمين قوت صغارها من القمح والشّعير؛ اقتصد في نظراتك وقبلاتك إلى الشّتاء العاصف بالأجساد؛ لا تجعل البرد يقتل فراشك الصباحيّ؛ اجعل قدرتك على الإبداع فوق الإبداع نفسه، الإبداع يكون أمام أنثى تحبّك مع الشتاء؛ تستهويك في الصّيف؛ تناديك تعال إن شئت النّار في موقدي.

     بعد برهة من الحبّ ذهبت إلى الحديقة كنت على موعد مع الذكرى؛ كلّ الذكريات  تجلس هنا؛ كنت على موعد مع حبّ تركته  مع تلك الأزهار لها أريج كالعطر في الواحة؛ ينبت الحبّ وسط الواحات؛ يصعد مع باسقات النّخيل؛ ينحني النّخل في المساء من شدّة الحنين إليك؛ يتحوّل الحبّ إلى تمر أصفر لمّاع شهيّ يسقط أرضا؛ يتحمّل النّخل عطشي...شوقي...انتظاري... ينبت الحبّ في حديقتي كما تنبت الأزهار؛ تحتاح الأزهار البريّة إلى من يقطفها؛ تحتاج الأنثى البريّة إلى حبّ صحراويّ يأخذها مع الريّاح وسط الرّياح؛ فكّرت أنّ قوّة حبّي لك تشبه قوّة تلك الرّياح العاتية تأتي من مكان قصيّ؛ ترتفع مع جسدي إلى السّماء؛ ثمّ تصبح على هيأة دواوير رمليّة تجعل السّماء كأنّها صحراء؛ فكّرت أنّه بعدد الأزهار في الأرض؛ بعدد النّجوم في السّماء؛ أحبّك...تركت كلّ العشّاق أمام أبواب  تتخلّلها أبواب وسط حديقتك؛ عددهم لا يحصى؛ هم بعدد النّجوم، هم بعدد الأزهار في الجبال؛ صلواتهم كالرّهبان فيها طقوس وثنيّة غريبة؛ لهم معتقدات خاصّة ينامون مع الأزهار؛ يعبدون الماء في الأنهار؛ يرقصون وسط النّار؛ فكّرت أنّهم صاروا يعبدون الأزهار في المنحدرات الجبليّة؛ فاضت الحديقة بحبّهم؛ فهربوا الى الجبال؛ صاروا على دينهم يعبدون ما لا أعبد؛ صاروا يحبّون عندما أفارقك؛ ويفارقوني عندما أغرق في حبّك؛ صاروا ينظرون إليّ بدهشة عندما رفضت أن أشاركهم رقصهم وصلاتهم؛ تعجّبوا لأنّي أشرب الماء؛ شتموني بنعوت نابية عندما شاهدوني أقبّلك قبل كلّ صلاة بين مغربين؛ قبل كلّ نظرة فاصلة بين عمودين كهربائيين في منحدر شديد الخطورة بين جبلين؛ اندهشوا عندما قلت لهم: أنا وحدي في صلاتي وحدي على طهارة بين نهرين؛ لا أصلّي جماعة إلاّ مع تلك الأزهار من الأقحوان الجبليّ تحت تلك الأمطار فيها برق ورعد؛ وقد تأكّدوا أنّي كنت على طهارة عندما شاهدوني أتوضأ بماء اصفّار في لون الذهب؛ هو ماء يتدفّق من أقصى نهر في أقصى الجبال؛ لا يشرب منه إلاّ من كان عاشقا على حبّ؛ لم يعرفوا أنّ الأمطار تغفر الذّنوب؛ كلّهم جلسوا هنا؛ احتراما لنا؛ احتراما لتلك الطقوس في العشق يتفجّر من باطن الأرض في شكل عيون وسط عيون باطنيّة؛ تتفجّر منها حمم بركانيّة مائيّة.....ساخنة ؛ ....كانوا على عادتهم ما انفدكّوا يصلّون...يسبّحون...يستغفرون تحت تلك الشّجرة وقد أحاطت بها أفعى طويل لسانها؛ دائريّ ذيلها؛ زخرفيّ قميصها؛ تغنّي بعد كلّ صلاة؛ بعد كلّ صيام؛ أو قبل كلّ قيام أناء اللّيل وأطراف النّهار؛ لماذا تأخّرت في صلاتك معي؟ لماذا رفضت أن تسقي الأشّجار معي؟ لماذا تركت النّاقة تعتدي على بيضي؛ ربّاه أين بيض نعامتي؟ ...لماذا تفيد السبب؛ وأنت تركت النّعامة دون سبب؛ أعلنت الحرب بين القبيلتين دون سبب؛ قتلوا ناقتي ببيض النعام؛ ألا يعادل ما فقدته بعد غيابك من حبّ أزليّ ما فقدته تلك النّعامة من حبّ أرضيّ؛ اشتعلت الحرب ولم تأخذ النّعامة حقّها في حبّك الأبديّ خرجت في دعائك عن سائر العشّاق يطلبون نزول المطر؛ يعزفون أغنيات الحبّ والمطر؛ لماذا كنت تبحث في صلاتك؛ في حبّك؛ عن سبب منطقيّ لا يدلّ على سبب بعينه. لماذا هجرت الصّلاة دون سبب؛ حتّى... في لغتنا تفيد ما هو مستبعد الوقوع؛ ليس مستبعدا أن نلتقي؛ ليس مستبعدا ما هو مستبعد الوقوع في الحبّ؛ كلّ شيء ممكن؛ كلّ شيء مباح؛ كل شيء حلال؛ ما عدا تلك الشّجرة لا تلمسها فإنّها حرام عليك؛ ما عدا تلك الأنثى حلال عليك؛ عفوا حرام عليك؛ لا تقبّلها؛ ابتعد عن ابليس؛ لكن لا تبتعد عنّي؛ ابليس أغوته الشّجرة؛ فقطف منها تفّاحة؛ أمّا انا وحدي أنا؛ فقد أغوتني نظراتك إلى السّماء؛ ولذلك قطفت من حديقتك أكثر من تفاحة أكثر من قبلة...نظرة؛ أنت من أعطيتني أكثر من قبلة بل أكثر من تفاحة؛ لا تلمني؛ قطفت من حديقتك أكثر من زهرة؛ وقعت في الحبّ من أول نظرة؛ نعم وقعت في الإثم من أول قبلة؛ ضع قبلتي فوق قبلتك؛ لا أستطيع الانتظار؛ امتلات الحديقة بالعشّاق؛ جاؤوا للصلاة؛ هم يحافظون على الصّلاة في وقتها؛ هم يحافظون على الذكرى في أوقاتها؛ غرسوا الأزهار على قبور العشّاق في حديقة العشاق؛ لهم صلاة يوميّة تشبه في طقوسها صلواتنا في التّراويح؛ لهم كتاب مقدس؛ لا يؤمنون بعذاب القبر لأنّهم عشّاق وقد تعوّدوا على العذاب والفراق؛ يعتقدون أنّ الرّوح زهرة بريّة؛ بدت شعائرهم غريبة؛ يتعلقون بالدّنيا ويهملون الآخرة؛ يرون أنّ من أكبر الكبائر قطف الأزهار؛ من يعتدي على الأزهار في أرضها اعتدى على الملائكة في سمائها؛ يتركون الهتهم تبكي؛ انتبهت إلى أنّ صلاتهم تبدأ مع الخريف وتنتهي مع الشّتاء؛ نحن نطلب في الصلاة نزول المطر وهم يطلبون في صلاتهنم نزول الحبّ؛ الحبّ مثل الماء يسقي كلّ شيء؛ أذهلتني تصرّفاتهم... صلاتهم...دعاؤهم... لا يشربون مثلنا الماء؛ لا يأكلون مثلنا الطّعام؛ لا يفكّرون مثلنا؛ لا يشربون إلاّ من أنهار عذبة كلسان الشّمعة في صفاء الدّمعة؛ هو نهر واحد في أقصى الجبل؛ له باب واحد لا يدخل منه إلاّ الصّائم من هؤلاء العشّاق؛ هو نهر داخل أنهار متعدّدة في أقصى الجنّة؛ لا يشرب منه إلاّ من كان من سكّان الجزيرة النّائية يلفّها عشب ومرعى.

   تألمت لأنّ صلاتي  تبدأ مع كلّ ربيع ثمّ تنتهي مع كلّ خريف؛ أنت مثل أمطار الخريف؛ أنت مثل أزهار الرّبيع؛ فكّرت في تقليد الصّلاة أمام شجرة الحبّ ؛ صلواتهم عشر؛ خمس صلوات في النّهار وخمس صلوات في اللّيل؛ تألمت لأنّ سجودهم يبدأ مع أوّل الخريف وينتهي مع آخر الرّبيع؛ لماذا تركت خيول النّشوة تغادر جسدي؟ نشوتك عابرة كرذاذ المطر في أقصى الصّحراء؛ صلاتك باطلة لأنّك تركتني في الصحراء وحدي أواجه اللّصوص وحدي؛ لم تشعر بعطشي؛ أهملت حروف التمّني: ليت السّماء تمطر عشقا؛ تبدأ نشوتك مع طلوع الأحلام من الفراش؛ نشوتك لا تنتهي مع الفصول؛ أنت فوق كلّ الفصول؛ عندما يشتدّ البرد في الشّتاء أرتدي ما تركت من أحلام وسط أحلام؛ أفكّر في شخص تركته ينام تحت تلك الأشجار؛ تركته يعبد الأزهار؛ تركته يعد أيّام الشّتاء؛ تركته يعد أيّام الحبّ؛ تركته يعدّ القصص؛ أفكّر في نشوة أخذتها نملة إلى غارها في الشّتاء؛ وعدتني النّملة بالحبّ في الشّتاء؛ هي تخرج صيفا ثمّ تعود إلى جحرها شتاء؛ صرت مثل تلك النّملة أحبّ فراشك في الشّتاء؛ انظر كم حفرت النّملة من غار وسط غار؛ انظر كم تركت لك فوق أرضي من نملات ترعى بطمأنينة؟ انظر كم تركت في قميصي داخل قميصي من ثقب وسط ثقب يدعوك إلى جسدي؟ 

    في أيّام الشتاء كنت لا أنام إلاّ بعد أن أقرأ قصتي؛ كنت لا أنهض إلاّ مع قصّة النّملة في الشّتاء؛ مرّت قصّتك أمام فنّان تشكيليّ؛ اختار الفنّان المجهول قصّتي؛ اختار دون سبب واضح أن يجلس تحت تلك الشجرة الغارقة في نوم عميق بين جبلين؛ اختار أن يراقب تلك الذكرى في مغازة الذكرى؛ جاءني شعور ما أنّه يعرف قصّتي؛ لماذا اختار أن يجلس تحت جذع تلك الشجرة بالذّات؟ لماذا اختار أن يتذوّق من حبّات العنب الصّغيرة؟ لماذا اختار تلك الأعناب والكواعب والأتراب؟؛ هل أخبرته الشّجرة بقصّة حبّنا الصحراويّ لذلك تعمّد أن يجلس وحده في أطراف الصحراء؟ لماذا علّق اللّوحة على اليمين حيث كنت تجلس؛ حيث كنت ولم تكن؟ حيث كانت النّملة تبني بيتها؛ حيث كانت النّعامة تنام تحت ببضها؛ لماذا تسلّق أغصان الشّجرة بهدوء حذر؟ لماذا كان يراقب حبّي لك بعنف؟ ألم تكن تحبّ تسلّق الأشجار بهدوء يتخلّله بعض العنف؟ ألم تكن تسرق منّي أوّل قبلة بهدوء؟ ألم تكن تسرق منّي أكثر من قبلتين بعنف؟ ألم تكن تحبّ أن أصعد معك إلى الأعلى، إلى قمّة الشجرة حيث هناك أكثر من عشّ؛ حيث هناك أكثر من فراخ قتلها الفراق؛ أنت لا تحبّ الصّعود إلاّ إلى القمّة؛ أنت لا تحبّ الصّعود إلاّ إلى قمم الجبال؛ ألم تكن في صلاتك أو حبّك لا تستطيع السّجود أو العيش إلاّ في  أعلى الجبال؟ ألم تكن تريد الحبّ على طريقة ذلك الفنان العبقريّ يرفض أن يسجد إلى القمر والنّجوم في السّماء؛ أنت عاشق عبقريّ، تترك الأشياء ترسم نفسها بنفسها؛ تترك الأنثى في مرتفعات الجبال تختار أن ترسم نفسها حتّى تنسى نفسها؛ ترك الفنّان اللّوحة معلّقة من نهديها تقول ماتقول؛ ترسم ما ترسم وتغنّي للحياة ما تغنّي؛ ترك الفنّان الرّيشة وقد تعلّق قلبه بحبّات العنب الصّغيرة تسقط بين النّهدين قرب النّهرين؛ سئم كلّ الألوان والأشكال؛ سئم الحياة نفسها؛ سئم تقليد الأشياء لا تدلّ على الأشياء نفسها؛ سئم عبادة الأصنام؛ أنت من هرب إلى حديقتي؛إلى شجرتي؛ أنت تركت النّملة تجمع الحبّ وحدها؛ أنت تركت مريم تحت جذع النّخلة تلد وحدها؛ لم تسمع صريخها يا ويلي جاءني المخاض....أنت تبحث عن حبّ يرسم نفسه بنفسه؛ ترك الفنّان اللّوحة؛ ترك الفنّان جسدي يتعرّى امام مجرى النّهر قليلا؛ أحسّ بالبرد اقترب من موقدي يبحث عن دفء يقتل إحساسه بالبرد؛ تركني وذهب إلى الجبال؛ ترك نشوتي؛ ترك أزهاري إلى بقية العشّاق؛ ترك ماترك؛ لكنّه لم يترك تلك الأنثى دون سيف في الصّحراء؛ لم يترك الطّيور دون أعشاش في الغابات؛ عفوا لن يترك الشّجرة الخضراء دون عصافير صفراء؛ أكره الاشجار العارية من العصافير؛ مازال ينتظر عودتي إلى شجرة العصافير؛ مازال ينتظر مجرى دمعتي؛ مازال يحبّ أنفاس صلاتي؛ مازال لم يرسم تفاصيل حبّي؛ مازال الفجر؛ مازال الحبّ مع الفجر.          

    لم تعد الحديقة تحتمل أكثر من عاشقين، عفوا أكثر من ذلك الحب فوق الطاقة، بعد نظرتين؛ بعد حمامتين؛ بعد فجرين عدت إلى بيتنا...إلى حبّنا...عادت الطّيور تحلّق فوق بيتي...حطّت من جديد فوق أعمدة الكهرباء كأنّها على موعد مع حبّ قادم من السّماء.

    فكرت أنّ عمود الكهرباء عاشق أرضيّ حكم عليه بالأشغال الشّاقة إلى الأبد؛ وقد رفض رغم تلك العقوبة أن يتخلّى عن حبيبته تعبد الطّيور في السّماء، بعد انتظار عسير قرّر أن يموت مع تلك الطيّور وقد عادت إلى نفس القبور؛ وقفت أمام ذلك القبر احتراما لتلك الذكرى لا تدلّ على ذكرى بعينها.         



Post a Comment

Previous Post Next Post