رأيتُ فيما ترى الثاكلُ أطلالاً صنعتها يدٌ. لعمري، ماذا صنعت الأيامُ باليد؟ ومن بدّلها؟ سألتُ الشجرةَ البكماء، فلا تجيبني الشجرة! أوراقها فيها سلام، وعطرها وثوبها الأخضر. سلامٌ سلامٌ على نفسٍ لا تُقهَر!
ماذا نملك لنُزجِع؟ ما الإنسان وما الوجود؟ أتأمّل الشجرةَ الشامخةَ الماثلةَ أمامي. عجبًا، أغصاني أغصانُها، وأوراقي أوراقُها، وأرضي خصبة. لكن ما من طائرٍ يُطرب نفسي ويأسو عليها. لكأنني في روضةٍ من رياض الجنة، أنشدُ السلام غبطةً بهذه الطبيعة المبجلة.
فما الذي يهزّ عرشَ نفسٍ تشعر أنها في الجنة؟ من هنا مررتُ، أجرّ ثوبي الأخضر، كأن المسك من هنا قد عبر. أمامي عرصةٌ أتضوعُ فيها في مشيتي. هاك، انظر كيف يتضوع المسك!
عانقني الشوق، فإذا العيون أنهارٌ تعلّق الموجُ بأهدابها، فانذثر كاللؤلؤ من رموشٍ كأنها الإعصار! جاشت في نفسي الذكرى، فرحتُ أكتب باللُّجَج. لا أملّ، ولا أكلّ، ولا أنحني.
ورحتُ أطلب كأسَ راحٍ لذيذة أهيم بها في سماء الدنيا. أنا والسماء والطائر والقفص. أما الطائر فقد حرّرتُه، وأما القفص فها أنذا آسره في جوفي. أكتب، وما حبري إلا دمٌ انتفضت به عروقي. فحتى وهو يدرّ من خنجرٍ، يثور ويغلي ويتألق.
فلا يلقاه الواحد في حلّته وهو يفتي في قرطاسه ويشكو ألمًا عظم في جنانه، إلا كما يلقى الألق والفرح. أترنّح وأكتب فأنثر رونقًا. يتجلى اسمي في كل حرفٍ هو لي، لا يعرف التكلف والتصنع.
أسير فيهجوني قومي. وما هجاؤهم لي إلا خوارٌ لو اتصل بمسامع أصمّ أبكم لغدا ناطقًا ولارتدّ إليه سمعه. وما قولهم بقول عاقلٍ لنضرب به المثل، ولا بقول معتوهٍ مذهوبٍ به لنطرب به.
فإذا تحدثوا، عجّوا بالكلمة عجيجَ الناجية بقرى صاحبها إذا ما استساغتها نفسها. فما فقهوا الحديث، وما أطربوا مطربًا شجيَّ النفس، وما قام لهم تبجيلاً إلا الذين هم أراذلهم.
لا يدّعي الفصاحة من لا يُحسن هجاء حروف اللغة العربية. وأن لا فرق بين واحد كهذا وبين أرعن لمحَ بطرفة عينٍ وجهَه على ثغر قمر. ألا إن القمر في عليائه قمر، والوجه في أرضه وجه.
أما الثغر الأخّاذ، فأيّهم فُتِن بابتسامته قبل وجوده ليكون وجودًا كهذا عقابًا له على إثمٍ لم تعبث به يده؟ علم الله أني أخرسهم بنظرةٍ مني لا تليق إلا بصاحبتها، وبقلمٍ وريشة.
فإذا ثارت ثائرة القلم من أجلي، راح يعزف على أوتار قلبي لتستحيل الآلام التي تنخر صدري إلى عزفٍ حزينٍ يطرب الموتى في ظلماء المقابر والأسرى في غياهب النسيان.
وراحت الريشة ترقص وتتغنّى، فإذا تجردت من عواطفها جعلت الكلمات تهذي، والحروف تتراقص. هنا، حيث الكلمات تهذي، أحيا. هنا سُكرٌ وخمولٌ وجنونٌ لا يُضاهي الجنون.
آتوني بالخمر! فلأجرع الكأسَ ثم الكأسَ حتى أرتوي، فأكتب بعدها حتى الثمالة. لا أريد أن أفيق من سكري! ولا أريدك أن تعبث مع !! !أنثى تقتات مشاعرُها على الفوضى