كان (سعد) فتى في العاشرة من عمره، تخلى عنه أبوه منذ طفولته حين علم انه مصاب بمتلازمة داون وخير أمه بينه وبين الطفل، فاختارت ابنها وانفصلت عن زوجها لترعاه، و ها هو ذا في يومه الأول ذهب إلى مدرسته الجديدة، كان خائفا لأنه مختلف عن الآخرين وكان يدرك أن هذا الاختلاف سيعرضه للسخرية كما تعرض لها في مدرسته القديمة، بسبب ملامحه الغريبة تلك ووجهه المختلف ولكنته الغريبة، كان يعلم أن ليس بمقدوره تكوين صداقات أو حتى العيش حياة طبيعية كما يحيا الجميع، وسيتعرض إلى كلمات نابية كما ذاقها من قبل في مدرسته وفي مكان سكنه وفي الحدائق والمتنزهات، ينظرون إليه بخوف كما لو أنه مسخ فيؤذون قلبه الطيب فلا يسعه سوى البكاء في حضن أمه التي غمرته بكل الحب الذي أراده من هذا العالم، ولطالما تمنى لو كان العالم كله كأمه يحبه على حاله وبدون أي مقابل، دخل من بوابة المدرسة وقد احتشدت الساحة بطلابها والجميع يحدق به بين المندهش والمشمئز والمتعاطف، استجمع قواه ومضى ليجلس على إحدى أرصفة الساحة مطأطئ الرأس كما لو أنه أذنب ذنبا حين جاء مختلفا عنهم، مر الطابور الصباحي سريعا ودخل الطلاب إلى صفوفهم، دخل صفه فصمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، وجد مقعدا فارغا بجوار أحدهم فهم بالجلوس فمنعه مدعيا أنه محجوز لطالب آخر، فاقترب منه فتى ضخم الجثة ونكزه قائلا: « ما جاء بك إلى هنا أيها المعاق، اذهب إلى دار المجانين» حينها ضحك الجميع ماعدا فتى يدعى (سيف)
- (رائد) الأمر ليس مضحكا، دع الفتى وشأنه.... قال (سيف)
- انظروا معاق يدافع عن معاق... قال (رائد)ساخرا فضحك الجميع فوقف (سيف) متضايقا
- أقلها ليس في عقلي إعاقة.. قال بتحد فاستشاط (رائد) غضبا واقترب من (سيف)
- أعد ما قلته يا (سيف)......
- لقد سمعت.... قال بشجاعة ثم دخل المعلم الغرفة مسلما عليهم فذهب كل إلى مقعده فهمس (رائد) ل(سيف) قائلا
- أراك في الفسحة... وابتسم بمكر ثم مضى إلى مقعده، أما (سيف) اكتفى بالابتسام ل(سعد) وأفسح له ليشاركه الجلوس بجواره، ابتسم (سعد) وأسرع وجلس إلى جواره، وطفقا يخرجان أدواتهما المدرسية من حقيبتيهما، كان (سيف) فتى هزيل الجسد وكان في البداية يتعرض للسخرية من زملائه كثيرا بسبب ذلك، ولكنه كان يملك قلبا فولاذيا لا ينصت إلى ترهاتهم وينتبه إلى دراسته حتى تفوق عليهم، فلم يعد أحدهم يتنابز أو يلمزه بكلمة
عاد (سعد) إلى بيته ولأول مرة سعيدا، وروى لأمه ما فعله (سيف) لأجله، فرحت امه لفرحه، استمر حاله أكثر من أسبوعين يجالس (سيف) ويحدثه، رغم تعرضه لمضايقات كثيرة لكن وجود صديقه (سيف) مسح الحزن من قلبه ولم يهتم، حتى جاء اليوم المشؤوم أثناء جلوس (سعد) مع (سيف) في الاستراحة فجاء (رائد) كعادته وتنمر عليهما وجعلهما سخرية للطلاب حتى ثار (سيف) وتعارك مع (رائد) ونظرا لعدم التكافؤ انتصر ( رائد) بالنزال ثم دفع (سيف) بقوة إلى حافة أحد أرصفة الباحة المدرسية فاصطدم رأسه بها وسقط مغشيا عليه والدماء تسيل من رأسه، وأمام صراخ الجميع ثم حضور المعلمين واستدعاء الإسعاف، ظل (سعد) واقفا في مكانه مصدوما أما (رائد) ارتجف خائفا من هول ما حدث ولقي العقاب العنيف من معلميه وولي أمره، جاء اليوم التالي والذي يليه ويليه ولم يأت (سيف) و(سعد) يجلس منزويا لوحده يأبى أن يتحدث مع أحدهم حتى جاء (رائد) إليه معتذرا وأنه لم يقصد فانفجر (سعد) وقال:« هل كان كثيرا علي أن احظى لو لمرة واحدة بصديق يحبني يراني عاديا مثلكم ولا يبالي لشكلي ولكنتي، أكان كثيرا علي أن أعيش لمرة واحدة مثلكم، أكون أصدقاء، أجلس معهم وأتضاحك معهم، هل استكثرتم علي (سيف)؟ هل استكثرتم علي أن أشعر أنني مثلكم؟»..... ثم أجهش باكيا امام تأثر الجميع بحاله
مر شهر ولم يعد (سيف) ولا زال (سعد)يجلس وحده، ويدرس وحده، ويأكل طعامه في الاستراحة وحده ورغم محاولات الكثيرين التحدث معه بعد فقدانه لصديقه (سيف)،حتى اتى اليوم الذي كان يقف في الطابور الصباحي يسمع للإذاعة المدرسية وإذ بذاك ب(سيف) يقف إلى جانبه معصوب الرأس ويبتسم له فاتسعت بؤبؤ عينيه وتهدجت انفاسه وضحك بفرح وبلا وعي احتضن ( سيف) بقوة فضحك (سيف)، وحين أتت الاستراحة وجلس الصديقان في الباحة يتناولان طعامهما التف حولهم عدد من الطلاب ومن بينهم (رائد) الذي ابتسم ل(سيف) واعتذر له فقبل اعتذاره ثم جلسوا جميعهم يتناولون الطعام ويتشاركونه بينهم امام فرحة (سعد)بهم وفرحتهم به.