مراحل تطور الفن القصصي في المغرب - أشرف حمامة / مجلة آبولو




      إن المتصفح لتاريخ مراحل تطور الفن القصصي بالمغرب يجده متسلسلا زمنيا، فهناك من النقاد من يرجع بأن بداية القصة في المغرب سنة 1905م، و من قال بهذا التحديد الأستاذ محمد الصادق عفيفي في كتابه "القصة المغربية الحديثة"، و هناك من حددها من سنة 1912م على حسب رأي الأستاذ محمد حامد النساج في كتابه "القصة القصيرة "، إلا أن أحمد اليابوري في رسالته يجعل بداية المرحلة من سنة 1914م، و لكن قبل بداية هذه المرحلة كانت هناك بدايات للفن القصصي تمثلت في المقامات والمناظرات سارت على نهج أسلوب مقامات الحريرين، فمحمد بوجندار يكتب مقامة " ذكرى في ختم البخاري " و محمد غريط مقامة في " وصف مكناس ".

هكذا كان يسير الأدب في بدايته ، بينما الحديث أتي وليد صدفة هبت به نسمات من الهجرات الشرقية، حيث اختار بعض اللبنانيين الإقامة بمدينة طنجة، و كان من أبرز هؤلاء اللبنانيين وديع كرم، يقول اليابوري: " و كان يشمل الاتجاه الحديث في فترة التأرجح هاته بعض اللبنانيين الذين كانوا يقيمون بطنجة في فجر القرن العشرين و يصدرون مجالات و جرائد تتناول شؤونا ثقافية و سياسية، و من أبرزهم وديع كرم الذي أصبح بعد ذلك من أنصار الحماية الفرنسية، و من أشهر قصصه القصيرة: "عراب " و " عليلة " و " الشقيقان "، و كلاهم تتناول مشكل الرق في المغرب و تستنكره بطرق متنوعة1 ، ولعل هذه المحاولة دفعت عض المثقفين المغاربة لزرع بذور القصة وهكذا طلع علينا الشهيد محمد القري بمسرحيته " اليتيم المهمل " سنة 1922، و مضمون هذه المسرحية دعوة إلى اتصاف الطبقة المستضعفة و الفقيرة، و لما قويت شوكة المستعمر" بالكر " اتحدت كل من العصبية الرباطية واتحاد الطلاب بفاس على تكوين كتلة واحدة فيما بينهما تضم اتجاهين: اتجاه أول يدعو إلى السياسة والوقوف أمام وجه المستعمر، و اتجاه ثاني يعنى بالحركة النقدية و الأقصوصية في آن واحد، و أول عمل قامت به هذه الكتلة هو إعلان عن تنظيم مبارة لأحسن نص يتكلم عن الإنسانية و عمل الخير، و قد كلف بتنظيمها قدماء الثانوية الفاسية، فلم تتوصل إلا بنص واحد بعث من عبد الله الجيراري و هو " إلى الفضيلة " ، و كان ذلك سنة 1927م، و مضمون هذه الرواية يدور حول شخصين أحدهما انقطع من الدراسة و الآخر من المحظوظين في متابعة الدراسة، و جرى بينهما حوارا توغل إلى الحث عن التعليم و الإلحاح عليه، يقول عبد الله الجراري في شأن هذه المسرحية: " ذلك أن الباعث الأكبر لوضع الرواية هو ما كان الاستعمار يسعى إليه من تفقير أبناء الشعب و تجهيلهم، و كان قد دب بصيص من اليقظة دفع بعض العاملين لفتح كتاتيب قرآنية علمية في بعض مدن المغرب كفاس و الرباط و البيضاء حفاظا على اللغة العربية و مبادى الإسلام التي كان الفرنسيون يعملون على طمس معالها، و لم يكن من الأحرار العاملين يجرؤون على تسمية الكتاتيب مدارسا خوفا من العرقلة و الإغلاق الذي كان يصيب بعضها من آونة لأخرى ".

و لم يكن الشمال أقل حركة من الرباط و فاس، حيث عمل الأديب عبد الخالق الطريس على تأليف روايته " انتصار الحق بالباطل "، و لما وفدت فاطمة رشدي إلى تطوان مثلت هذه الرواية مع زوجها وفرقتها الآتية من مصر و ذلك سنة 1933، و رغم هذه الحركة النشيطة و إن كانت تبشر بولادة فن قصصي، إلا أنها لم تكن كذلك حتى نشر علال الجامعي أول كتب في هذا الميدان بمعناه الحقيقي قصته   " تأسيس " بمجلة المغرب فبراير 1937، و اتجه بعض المثقفين المغاربة لإلهاب حماس الأدباء و إلقاء المسؤولية على عاتقهم لما رأوا من نضوب في ميدان القصة، فاتخذوا من الصحف منابر لنشر أفكارهم و استنهاض همم الأدباء و التذكير بأجدادهم، و كانت أول صيحة رددها سعيد حجي في قال له تحت عنوان " وظيفة الأدب المغربي "، يقول: " إن الأدباء هم الذين يجرؤون على صيحة تردد أصوات الغابرين من أجدادنا العظماء، و تفصح على الآمال المنتعشة التي تدور في خلد المصلحين اليوم، وترمز للمجهودات التي سيبنى عليها مصيرنا في المستقبل، الأدباء هم دعائم التطورات الاجتماعية الصحيحة، وعلى مجهوداتهم الأولى يرسم المصلحون و المفكرون و العلماء و كل العقول خططهم "2.

و قد ترددت صدى هذه الصيحة في آذان المثقفين إلا أنها لم تكتمل إلا عندما ظهرت على شكل وعي، وبمعنى آخر أن هذه الجرأة لا تكتمل إلا بالاطلاع عن الحضارة الحديثة، و ذلك ما أراد أن يصل إليه عبد الله إبراهيم إذ يقول في مقال له: " الذي ينقص نهضتنا الفكرية إذن هو الجرأة اللازمة ليستطيع الإنسان أن يصدع بما يعتقد أنه الحق في الحياة، ينقصنا أن نفتح النافذة قليلا لنشم الهواء الطلق و ننصح الناس بما نعتقده صوابا و نحن مطمئنون مرتاحون "3، فما يريد عبد الله إبراهيم هو التفتح على العالم الخارجي و أن ننهل من معين الأدب الحديث غربه و شرقه، يقول اليابوري معلقا على هذا المقال: " أن النوافذ الحضارية قد تفتحت و سرت منها نسمات منعشة من الشرق و الغرب، فاتجه الكتاب نحو الأدب الحديث و ظهرت القصة التاريخية التي استجابت لدعوة النقد و عملت على بث الثقة و الأمل في نفوس المغاربة في صراعهم مع الاستعمار"4 .

و لعل الصيحتين عملتا مفعولها السحري و تشرب المثقفون المغاربة من معين هذه الحضارة الحديثة  فأطلوا على المشرقية و الغربية، فكان عبد المجيد بن جلون من الرعيل الأول الذي تشبت بهذا المنظور الحديث فترجم بعض القصص الموباسانية و التشيخوفية إلى العربية التي أغنت مدارك المثقفين، و لكن ما لبث عبد المجيد بن جلون أن خرج علينا بمجموعته القصصية " وادي الدماء " سنة 1949، ثم جاءت " شقراء الريف " لعبد العزيز بن عبد الله، و تلتها قصص أخرى كقصة " الملكة خناثة " لأمينة اللوه، فكان مضمون هذه القصص لتاريخية / الوطنية محورها الرئيسي هو الوطن أي التشبث بالوطن و طرد الدخيل، و لم تخل هذه المرحلة من وجود نصوص قصصية أخرى و إن كان ذلك بتستر خفي كقصة "الخادمة " لعبد الله إبراهيم " و مجموعة " عمي بوشناق " لعبد الرحمان الفاسي " و " سبع قصص في مدينة فاس " لأحمد بناني و خصوصا نص " مجذوب زلاغ "، فرغم وجود هذه النماذج إلا أنها قليلة في نظر عبد الكريم غلاب رغم الفترة الطويلة و يعزو ذلك لأربعة أسباب:

أن الأدباء لم يتجهوا إلى القصة، و قد كانت ما تزال فنا مستحدثا بالنسبة للمغرب و ذلك رغم النماذج التي قدمها الإنتاج المشرقي، و قد كان مقروءا عند الذين يقرأون العربية، و قد قدمت هذه النماذج المجلات الأدبية المصرية كالرسالة و زميلتها الرواية و الهلال.

انعدام الصحافة و قلتها و ضعف مستواها التجهيزي و لم يكن ذلك مما يساعد على تطور فنون القول أو شيوعه.

الرقابة التي فرضت الصحف التي كانت تصدر أثناء الحرب و بعدها، و قد استمرت حتى سنة 1950 ليحل محلها إقرار منع كل الصحف الوطنية التي كانت تعنى بالأدب و القصة في آخر سنة 1952.

المستوى الذي تخلف عن السنين الطويلة المقفرة لعهد الحماية.5 

رغم هذه الأسباب الأربعة التي ذكرها عبد الكريم غلاب فلا يستبعد أن تكون هذه الفترة خصبة بالنسبة للنتاج القصصي، فقد شارك في ولادتها مجموعة من الكتاب المغاربة الذين برهنوا على استقلالية النص المغربي المنبثق من الواقع المعاش، فرغم هذا الحصار المضروب على الفكر حسب رأي غلاب فإن الكتاب ما لبثوا أن هربوا بأفكارهم و قصصهم و طبعها خارج المغرب كما فعل بن جلون حيث طبعت مجموعته " وادي الدماء " بالقاهرة سنة 1949.

و تأتي المرحلة الثانية، هذه المرحلة التي أتت مغايرة للمرحلة الأولى، فإذا كانت الأولى تهتم بالوطن و الدفاع عنه و العمل على إخراج المستعمر، فعند استقلال البلاد سكت الكتاب عن الكلام المباح، فاتجاه الذي استعد إليه هؤلاء الكتاب لكتابة قصصهم التي كانت تسير على نهج مضموني يهتم بالوطن المحور الرئيس لهذه المرحلة الأولى، عند ذاك نقض الكتاب أيديهم و وضعوا القلم.

في بداية المرحلة الثانية شهدت نضوبا في النتاج القصصي و لكن هذا النضوب أخذ في التقلص ووجد الكتاب محورا آخر للكتابة القصصية يتمثل في الإنسان، هذا الأخير الذي كان يطمح إلى استقلال بلاده و التطلع إلى الحرية و تحقيق آماله المنشودة، و لكنها تبخرت و باتت أحلامه معلقة في الهواء بسبب بروز طبقة بورجوازية هي من مخلفات الاستعمار حطت بأكملها على الطبقة الكادحة لجعلها بساطا تدوس عليه بأقدامها، و لكن البساط لم يستقر في مكانه مما أدى إلى زلزلة في شكل ثورة تمخضت عنها إضراب 23 مارس 1965 بالدار البيضاء، فكانت هذه الأحداث مرتعا للكتابة القصصية و الحديث عن هموم الإنسان و مشاكله وما يتخبط فيه من آلام و مشاق غالبا ما تنتهي باليأس و الحرمان.

فمحور هذه المرحلة هو الإنسان الذي أصبح قضية سواء أفي الواقع المغربي أو حتى على الصعيد العربي، فكتبت خناثة بنونة عم مأساة الإنسان الفلسطيني "النار و الاختيار " و مبارك ربيع " رفقة السلاح و القمر "، و على امتداد هذه المرحلة الثانية و الثالثة يبقى لمحور الرئيس هو الإنسان بمآله و آلامه بأفراحه و أقراحه.



الهوامش:

مقال " ملامح القصة القصيرة في المغرب " مجلة اللقاء/ عدد13/س2/ماي 1969.

مقال منشور بملحق جريدة المغرب للثقافة المغربية/عدد4/سنة1938.

مقال " ثورة العقل" المنشور بملحق جريدة المغرب/ المغرب للثقافة المغربية/عدد5-6 سنة 1938.

مقال " ملامح القصة القصيرة في المغرب " مجلة اللقاء/ عدد13/س2/ماي1969.

كتاب " مع الأدب و الأدباء " /عبد الكريم غلاب/ط1/دار الكتاب الدار البيضاء سنة 1974.



         

      

   



 



Post a Comment

Previous Post Next Post