إنها تنوي قتلك الليلة!!
"ولكن إن كان مولعًا بها هكذا... لماذا لم يتزوجها من البداية؟!"
"لا أعلم... من الممكن أن هذا كان اختيارها!... لا شأن لنا بأمر القادة".
بعد نجاح الحملات العسكرية المتتالية للملك "خع كاو رع" ضد شعب "الكوش"، والتي انتهت بنجاحه في السيطرة على مملكتهم بالكامل وضمها لأراضي "كيميت"، ثم قام بتنصيب القائد الكوشي "كاشتا" نائبًا عنه لإدارة حصن "أبو" الجنوبي، وذلك نظرًا لقوته الجسدية ومهاراته الحربية المتميزة واستبساله وشجاعته في الدفاع عن أرضه أثناء الحرب.
على الجانب الآخر؛ سقط العديد من الضحايا بين الجبهتين، ولعل من أبرزهم كان قائد الحامية الجنوبية وكاتم أسرار الملك، الضابط "سارنبوت".. لكن الغريب في الأمر هو عدم تمكنهم من العثور على جثمانه!!... لم يجدوا سوى ملابسه وأسلحته ملطخين بدماءٍ لزجةٍ!!
عاش القائد الأعزب في قصره المميز بصحبه شقيقه صاحب العقل النير والعينين الفضوليتين "شباكا".. تمكنا معًا من نشر العدالة والحب والتنمية في أرجاء الحصن، مما مكنهما من نيل استحسان الجميع وسلب قلوبهم ومحبتهم.
لم تمر سوى فترة وجيزة على حكم "كاشتا" للحصن، حتى زارتاه فتاتان شابتان في مقر حكمه، تُظهر ملامحهما أنهما قدمتا من الشمال.. "يعرت" صاحبة الوجه الناري المتوهج، وأختها ذات القسمات الملائكية الهادئة "تيا".. عرفت الفتاتان نفسيهما على أنهما ابنتا الضابط المتوفى "سارنبوت".. استقبلهما القائد بحفاوة بالغة معربًا عن أسفه لما حل بوالدهما.. شكرته "تيا" بخجل، أما أختها فرمقته بنظراتٍ متعاليةٍ قليلًا...
"أين جثمان أبي؟؟.. فنحن بالطبع لم نقطع كل تلك المسافة للزيارة وتلقي التعازي على فقد أبينا البطل ولكن لنبحث عن جثمانه".
على الرغم من عدم لباقة حديث الفتاة، إلا أنها نالت إعجاب القائد على الفور!!.. فهو بعيدًا عن ملامحه الإفريقية الحادة التي توحي بالقوة والسيطرة؛ إلا أنه كان ذا قلب حنون، فوضع لها أعذارًا تعلل سوء أسلوبها تجاهه، ووعد "كاشتا" الفتاتين بتوفير كل السبل المتاحة للمساعدة من أجل إيجاد جثمان أبيهما المفقود.. ثم تقدم القائد بعرضٍ إلى الفتاتين للإقامة في قصره طوال مدة البحث، والاستمتاع بصفاء الذهن في حضرة الطبيعة الساحرة والهادئة في الجنوب.. فقبلت الفتاتان عرضه مرحبتين.
في خضم البحث والمحاولات المتكررة للعثور على الجثمان الغامض فقده، ألقى "كاشتا" عرض آخر بطلب الزواج من "يعرت" وزواج شقيقه من أختها.. وبعد تفكير عميق منهما وافقتا على العرضين، وتمت مراسم الزواج، وسار الأمر على نحوٍ جيدٍ لبعض الوقت!!
بمرور الأيام، بدأت شعلة العشق تخفت؛ فالسيدة "يعرت" أصبحت لديها عادتها في الانعزال الغير مبرر وعدم مخالطة أحد!!.. فتمكن الحزن من قلب زوجها، وتسلل السأم إلى روحه.. ولكن أثناء حديثه مع شقيقه في شئون الإدارة، طرأت عليه فكرة لحل أزمته مع زوجته المنعزلة، فقد لاحظ أنها لا تظهر ولا يتهلل وجهها إلا بوجود أختها.. فقرر دعوة "شباكا" وزوجته لقضاء عدة أيامٍ في قصره، آملًا أن تضطر زوجته تنحية عزلتها قليلًا.
أثناء تناول الجميع وجبة الغداء، كان حزن القائد قد تبدل إلى سرورٍ بعد بشائر نجاح خطته.. ولكن فرحته لم تدم كثيرًا؛ فأثناء تناوله شربةً من الماء، فوجئ بنظراتٍ خاطفةٍ موجهةٍ من شقيقه إلى زوجته، فأشعلت الغيرة قلبه، وسرى الماء كالغصةِ في حلقه.. أما "يعرت" فبدا عليها أنها لم ترَ ما حدث أو لم تَعر الأمر اهتمام.
بعد انقضاء مدة الزيارة، وعودة الأمور لطبيعتها مع الجميع؛ جلس القائد مع زوجته ليخبرها بمدى شوقه لرؤيتها...
"أغبطك على تحملك الانفراد بنفسك فترة طويلة، كنت أظن أن النساء يشتهين الحب ويتُقن لسماع عبارات الغزل والإطراء.. على الرغم من أن إعجابي بكِ كان سببه قوة شخصيتك ورجاحة عقلك، إلا أن الرجل بداخلي يشتاق للأنثى الجميلة بداخلك.. ألا تخبريني أين ذهبت؟!"
اصطنعت "يعرت" الابتسام في محاولة منها لإخفاء تأففها وضجرها من حديثه، فاقتربت منه وأمسكت أنامل يمينها يُمناه.
"أنت تعلم أن عقلي الآن مشغول بأمر جثمان أبي، كيف يتسنى للأنثى أن تمارس طبيعتها وتنثر دلالها والحزن يجثم فوق قلبها والأفكار السيئة تخيم على عقلها؟!"
لم يزد "كاشتا" على ما قالته، واضطر للذهاب مودعًا إياها وهو لا يزال حاملًا الغصة ذاتها داخله.. أما هي وعلى الرغم من تظاهرها بعدم رؤية نظرات شقيقه، إلا أنها لم يشغل بالها الإعجاب في حد ذاته، ولكنها وجدت أن الأمر قد يصبح ذريعةً جيدةً لاسترجاع محبة زوجها وتراجعه عن الانشغال بأمر عزلتها، وتحقيق ما كانت تطمح فيه.
بالنسبة لـ "تيا" كانت تحاول إخفاء حنقها مما حدث من قِبَل زوجها، ولكن ما خفف من وقع الأمر عليها كان اتفاقها مع أختها على أمرٍ ما لم يعلمه أحدًا سواهما!!.. وفي إحدى جلسات السيدة مع خادمتها التي عُرف عنها نشر الشائعات والأخبار إلى أرجاء الحصن، ألقت عليها سؤالًا مبهمًا.
"أخبريني صدقًا، إذا كنتِ رجلًا، ما قولك في سيدةٍ مثلي؟"
لم تفهم الخادمة المغزى من وراء السؤال، ولكنها أردفت:
- "سوف أكون رجلًا محظوظًا بالطبع بالحصول على سيدةٍ طيبةٍ حلوة النسمات والقسمات ولطيفة المعشر مثلك.. ولكن عذرًا ما سر هذا السؤال يا سيدتي؟!"
بدا الحزن المفاجئ على السيدة...
"زوجي"... وانتظرت قليلًا لتستطرد: "أخشى أن يكون بداخله حبًا نحو أختي".
اضطربتا عينا الخادمة، وصمتت فاغرةً فاها قليلًا، وقالت في محاولة منها لاستدراج السيدة لقول المزيد!
"ماذااا؟!!.. ولم الشك في أمرٍ كهذا هل حدث ما يثيره؟!"
"عند زيارتنا لقصرها، شاهدت منه نظراتٍ إليها لا تستحي.. كنت أظن أن عينيه الفضوليتين نهمتان للعلم والمعرفة وملاحقة التفاصيل من حوله كوسيلة لإظهار ما في عقله، ولكنِ لم أكن لأتوقع أن يتحولا إلى شكلٍ ردئ لترجمةِ ما في قلبه".
"ولكن سيدتي هذا ليس دليلًا على أن هناك محبةً تخالج جنبات قلبه تجاه السيدة "يعرت!!".
زاغت عيناها قليلًا، لترد بعفوية مصطنعة:
"للأسف.. أشعر أن الأمر متبادل بينهما".
في الليلة التي سبقت الاحتفال بعيد الإله "خنوم"، وأثناء زيارة "شباكا" وزوجته لقصر شقيقه، تقدم الأخ بهديةٍ متميزة من صنع يديه الماهرتين إلى القائد قبل الحفل، وكانت عبارة عن خنجر من الذهب والعاج.. حاول "كاشتا" إظهار إعجابه وتزييف فرحته بهدية "شباكا".. أما السيدتان فانفردتا بحديثهما إلى بعضهما البعض.. فقالت "يعرت" بهمسٍ إلى أختها:
"هل سارت الأمور على ما يرام؟"
فابتسمت الأخرى وهي تنظر إلى يسارها، وأجابت:
"أفضل مما تتوقعين.. ولكن يجب عليكِ تخفيف أمر عزلتكِ قليلًا، فعادتكِ أصبحت ملحوظة وهذا في رأيي ليس جيدًا لنا".
فربتت على كتفها وطمأنتها قائلة:
"لا تقلقي.. انتهى أمر العزلة، لا حاجة لي بها الآن".
عند شروق شمس عيد الإله "خنوم"، استيقظت السيدة "يعرت" مبكرًا، وذهبت على غير عادتها لتشرف بنفسها على إعداد ألوان الطعام المختلفة، وتتسامر مع الخدم للمرة الأولى منذ زواجها، حتى أتاها حارس القائد الشخصي طالبًا منها القدوم لحجرة زوجها في الحال.. هرعت السيدة إلى الحجرة لتجد "كاشتا" في فراشه جثة هامدة بلونٍ مكفهرٍ وكأن الدماء اختفت من عروقه.. فأطلقت صرخاتها وراحت تبكي وتنوح وتسأل الحراس:
"ماذا حدث؟!.. من فعل تلك الجريمة البشعة؟!... من قتل زوجي الحبيب؟!... لم يكن لي رجل من بعد أبي سواه".
ولكن حاول الجميع تهدئتها، وبدأوا التحقق من الحادث، وكشف سبب الوفاة.. وأثناء ذلك، استأذن "شباكا" للدخول بعدما علم بالخبر المشؤوم، ونظر إلى جثة شقيقه المقتول، ليجد هديته إلى جوار عنقه، والدم لا يسيل من أي موضع في جسده سواها، ولسوء حظه كانت أرملة شقيقه تشاهد نظراته، فالتقطت الهدية، وأمسكت بعنقه تعنفه.
"أليست هذه هديتك له بالأمس؟!!.. ماذا وضعت بها؟.. بالطبع كانت مسمومة.. كنت تريد التخلص منه؟.. كم أنت رجلٌ حقيرٌ!!".
كَثُرت بعدها الشائعات حول خيانة "شباكا" لشقيقه، واحتمال تورطه في تلك الجريمة، ولم يكن هناك حديث في حصن "أبو" سوى عن الأخ الذي قتل أخاه طمعًا في زوجته ومُلكه.. ولكن وعلى الرغم من كثرة القيل والقال، إلا أن جميع التحريات التي تخص هذا الحادث لم تتمكن من إثبات أو نفي تورطه في القتل!!.. ولم ينتظر الأخ كثيرًا حتى استطاع إقناع الملك "خع كاو رع" بمدى جاهزيته لينوب عن شقيقه القائد في إدارة الحصن.
بعد نجاح زوجها في اقتناص فرصته في الحكم، يبدو أن الأمر لم يرُق كثيرًا للسيدة "تيا"، فكان الحزن والشك صديقيها كل ليلة.. لم يكن يعنيها الحكم في شيء، بقدر ما كانت تخشى تأجج مشاعر الإعجاب القديمة مجددًا نحو أختها، أو ظهور رغبة لـ "شباكا" في الزواج منها لعدم وجود عوائق الآن!.. فقررت الذهاب إلى منزل "يعرت" علها تجد حدًا لظنونها.. ولكن هناك أخبرها أحد الخدم أنها ليست بالداخل، فتسللت في الخفاء إلى الحجرة الرئيسية لتبدأ بحثها عن أية خطابات يمكن أن تكون بين الاثنين، ولكنها وجدت شيئًا ما كانت لتتوقعه.. بردية صغيرة مكتوبة بلونٍ أحمرٍ مدون عليها عبارة: "من يملك الثالوث البتار يحكم العالمين".. ابتلعت ريقها وأسرعت في قراءته في فضول.. كانت البردية مقسمة إلى وصايا ونداءات لقوى الظلام، ولكنها لم تتمكن إلا من قراءة الوصايا، والتي تتحدث عن إشباع العقل ثم الجسد ثم الروح لكسب القوة الكاملة، فإشباع الجسد ينتج عنه القوة، وإشباع العقل يولد الذكاء، أما الروح إذا تم إشباعها تولد السيطرة التامة على الجسد والعقل والنفس.. وذلك من خلال إحضار جثمان جسد قوي واستخلاص عقل واعي والسيطرة على روح نقية.. يجب أن يكون الجسد خاليًا تمامًا من الدماء، والعقل حي من جسد ميت، والروح النقية تغتسل قبل موتها ببردية الطهارة الممزقة إلى ثلاثة قطع، وفي النهاية يتم دفن الجثامين داخل جبل "البركل" في عيد "سيد كل الأكوان - آمون" بعد منتصف الليل.. فزعت السيدة مما رأت، وخبأت البردية داخل ملابسها، ثم حاولت الخروج من الحجرة مسرعة، ولكنها تعثرت بعدة أشياء لتصل إلى الخارج.. وما إن ولجت منزلها، حتى التقطت أنفاسها، وراحت تفكر في طريقة للتخلص من تلك الأفعى قبل أن تقضي عليها، ناسية الهدف الذي جمعهما سويًا، خادعة للجميع من أجل مصالحها الشخصية.. حينئذٍ اتخذت قرارًا لا رجعة فيه، الآن الأمر أصبح إما أن تتخلص منها أو تستسلم وتُقتل.
في الصباح، وبعد استعادة هدوءها ورزانتها، جددت "تيا" الزيارة مرة أخرى، تلقت حينها ترحيبًا حارًا من "يعرت"، ولكنها قابلت تلك الحرارة ببرود، وجلست السيدتان في صمتٍ مخيف لم يقطعه سوى سؤال غير متوقع...
"في رأيك، كيف تحدث الخيانة؟"
ضمت "يعرت" حاجبيها متعجبة وأجابت:
"طعنة من الخلف؟!"
"اممم.. إجابة موفقة، ولكن على الرغم من كونها طعنة غادرة تأتي من الخلف لتسلب إرادتنا، إلا أننا قد نستطيع سماع وقع أقدام الخائن قبل اقترابه منا، ولكن ما يزيد الأمر سوءًا أن يكون الخائن من المقربين بالفعل، فلا نتوقع الخيانة، وحينها يشل القلب من الحزن".
"معذرة.. لم أفهم!".
"تيا" بابتسامة هادئة:
"لا شيء.. ولكن أتتذكرين سبب قدومنا إلى هنا؟"
"بلى.. لتنفيذ خطة الملك في السيطرة على الحصن بلا عنف؛ لأن شعب "الكوش" شديد التدين، ولديه قوة عسكرية لا يُستهان بها، ولا يمكنهم الانصياع لأوامرِ شخصٍ فاسدٍ أو مجهولٍ، لذا كان القائد "كاشتا" يعد الاختيار الأمثل لهذا الحصن الهام، والآن تسلم "شباكا" للحكم وسط الشائعات المحيطة به خطوة أفضل نحو التخلص من تعلق شعب "الكوش" بضرورة قيادتهم بواسطة أحدهم!.. بالإضافة إلى محاولة إخفاء قتل الملك لكاتم أسراره لأنه وعده بإدارة الحصن فور نجاح الحملة، وهو ما لم يتمكن من تنفيذه".
"عظيم.. ولكن الملك أرسلنا لنتعاون سويًا لأننا نشئنا كالأخوات في قصره، لا لتنفيذ مخططات شخصية".
تلعثمت السيدة قليلًا، فأحرقتها "تيا" بنظراتٍ باردةٍ ورحلت.
في منزلها...
أحضرت خنجر زوجها الذهبي، وغمرته بسم الأفعى الذي كان بحوزتها من البداية، وهو السم ذاته الذي قتل بواسطته القائد "كاشتا"، ثم وضعته فوق منضدة خشبية في أقرب نقطة ظاهرة.
عاد "شباكا" إلى منزله، وكانت زوجته في استقباله ويبدو عليها الفزع، لم تمنحه وقتًا للسؤال، فأخبرته توًا قائلة:
"إنها... إنها تنوي قتلك الليلة".
تبدلت ملامحه، ثم سألها:
"من؟!!"
"يعرت.. تريد الثأر لأبينا ظنًا منها أنكم قتلتموه".
"من أخبرك بتلك الترهات؟!!"
بدأت في وصلة بكاء، ثم أخرجت البردية لتناوله إياها، وأصبح حديثها يخرج بصوتٍ متهدجٍ، وقالت:
"أخبرتني لتوها.. ولكن أخشى أن هذه ليست الحقيقة الكاملة؛ فقد عثرت على تلك البردية بين ملابسها!.. من الواضح أنها كانت تمارس السحر ولكن مع قوى الشر التي حذرها أبي منها، وحتى أنها تنوي التخلص مني أيضًا لتنال رضاهم!!".
على الرغم من الصدمة التي تلقاها إلا أنه كان حكيمًا، فتسلم البردية منها وقرأها مجددًا، ثم تأكد من صحة حديث زوجته.. جلس يفكر لبعض الوقت، وتراجعت هي لتجلس على مقربةٍ منه تشاهد رد فعله.. تراءت له لمعة خنجره من بعيد، فذهب إليه بخطواتٍ هادئةٍ، وأخفاه داخل ملابسه، وترك المنزل.
لم تمر أكثر من نصف ساعة حتى أتاها نبأ فتك الخائنين ببعضهما البعض.. حاولت "تيا" فيما بعد الظهور بمظهر الزوجة المغدورة، وأمرت الحرس بإحضار جثة أختها وزوجها ودفنهما داخل جبل "البركل"، وإقامة بناء مرتفع على هيئة "الكوبرا" تخليدًا لذكرى التخلص من الشر إلى الأبد، ورمزًا لعهد حكمها الجديد للحصن.