" الدجّال" قصيدة نحيا بها - منجي بن الحبيب الأشعاب

 



ليس أعمق من حيرة تنتابك وأنت تفكّك عملا فنيّا، لأنّ الحيرةَ نتاج عظمة العمل الفنيّ المعروض أمامك. و" الدجّال" من ذلك الصنف الّذي يرتقي عن التصنيف. فهي قصيدة تخترق المشاعر وتنفذ إلى الأعماق وهي لوحة فنيّة تتماهى معها إلى حدّ الانصهار. وبين اللّوحة والقصيدة تُحيّ فنّانا مكتمل الألوان يحسن العزف على أوتار جلّ الفنون فيبثّ في قلبك أسئلة خِلت أنّها صارت من التليد ويزرع بين تجاويف عقلك المدثّر بالدهشة جميع ألوان الأسئلة وأشكالها لتصبّ جميعها حول ماهيّة " الدجّال"؟

هل الدجّال هو كاتب النصّ ذلك المبدع الفنّان الذي يوهمك بنصّ فإذا بك إزاء نصوص متشابكة ومبعثرة في الظّاهر لا نظام فيها المتناسقة في الباطن لا علّة فيها.

هل هو هاشم ذلك الإله العبقري الّذي يخطو نحو طمأنينتك ليفتح أمامك أسئلة ونظريات كنت تعتقد أنّها باتت من الزمن القديم فيُعلي في الإنسان معنى التسامي؟

هل هو غازي الّذي يفتح أمامك عوالم غامضة يُتستّر عنها زمن " الخير الأسمى" المزعوم؟

هل هو مبروك الدّال على الشيء ونقيضه؟

هل هو الهدّاجي المظلوم؟ 

هل هو شيخ الروح والحبّ؟

" الدجّال" نصّ يُداهم حيرتك الرّاكدة ويدفعها إلى القلق إيذانا بفكّ شفرات كاتب فنّان ونص بيان ولوحة افتتان.

 وداعا لتدوروف وباختين وبارط أولئك الّذين قوْلبوا الرواية تحت راية تقتل حركة الإبداع والتفرّد. ولنتّجه وجهات أخرى لعلّنا نتمكّن من إزاحة الطّبقات لنكشف بعضا من ملامح النصّ الغارق في التستّر والغموض.

1- الدجّال قصيدة استعارية:

الشّاعر الفارس الفحل في الجاهلية هو القادر على نسج قصيدته على شاكلة المعلّقات الّتي تُكتب بماء الذّهب وتُعلّق على جدار الكعبة. وصاحبنا " الصليعي" كان كامرئ القيس فاتح المعلّقات. فقد صدّر روايته بمعلّقة طللية ثمّ اقتفى أثر القدامى فبكى واستبكى ووقف على أطلال الحبيبة وصفا ومناجاة وشدّ الرّحال لكنّه انزاح عن التقليد فكان كأبي نواس:

عاج الشقيّ على رسم يُسائله * وعجت أسأل عن خمّارة البلد

                         ****

عاج الشقيّ على الرواية يقلّدها * وعجت أسأل عن رواية التجديد

وعلى إثر المقدّمة طرح الغرض الرئيسي. وهو غرض قديم جديد وليس عندي أبلغ من " جدّة القديم" كما يقول المسعدي. فالتسوّل فعل قديم لكن عبقرية الكاتب تتمثّل في أنّه نفذ إليه من باب الأدب فلا فرق بين الهدّاجي والصبية المتسوّلين في المظهر الخارجي. والتحيّل فعل قديم لكن صاحبنا الصليعي يلج إليه من " كليّة الحقوق" رمز القانون. وهكذا يفاجئنا الكاتب بفتح أبواب قديمة بمفاتيح جديدة. 

بل إنّ هذه الرواية مطوّلة على شاكلة الجداريات وهي كجدارية درويش تخلص معنى اسمه:

وهذا الاسم لي 

وهذا الرسم لي 

وكذا كان الصليعي: 

هذا الرسم لي 

هذه الرواية لي.

افتتح الكاتب نسقا جديدا في الكتابة الروائية فهي في 42 فصلا. الأربعون سنّ النبوءة، وإن كانت في فصول الرواية فهي نبوءة جديدة في الكتابة لا سيّما وأنّ صاحبها " دجّال". والدجّال ليس سوى شيطان شعري ألهم امرئ القيس وأمثاله من الجاهليين نبوءة الشّعر، بل  ألهم كاتبنا نبوءة الرواية. إنّه شيطان روائيّ. واليوم لم يعد الشّعر ديوان العرب بل " الرواية". وليس أدلّ على ذلك من الفصل 25 ( أمسية مع ديوميسوس) ذلك الّذي استعرض فيه الكاتب ذاكرته الشعرية ليبرز مدى ثقافته وقدرة الرواية على استيعاب مختلف الفنون. فكأنّ الرواية اليوم هي ذاكرة الأوطان والشعوب. يقول عن نفسه بلسان هاشم" هذا ما يتداوله الأصدقاء عنك في الوسط الفنّي فأنت رسّام وشاعر وقصّاص وذاكرة شعرية محيطة" ( الدجال: الفصل7)

بل الرواية قصيدة نثرية احتفى بها وشرّع لها وجعلها تفوز في جميع المسابقات الشعرية المحلية والعالمية. أوليست " الدجال" قصيدة نثرية. عجبي من التماسك العميق. فهاشم يفكّك مريم ويحتفي بقصيدتها النثرية ويتماهى مع قلبها الصّافي، هي حبيبته وعشيقته، والكاتب يحتفي بروايته قصيدةً نثرية ويتماهى مع أفكارها، فهي حبيبته وعشيقته عاشرته لسنوات وهو يُهذّب ويزيد ويُنقص. أو لم يعلُ صوت الكاتب كثيرا في الرواية ويشير علنا إلى وجوده في عدّة مناسبات؟ 

لقد شكّل الصّليعي روايته على شاكلة المعلّقات الكبار. فعاد إلى النموذج الشّعري ولكنّها عودة المغامر الّذي تمثّل القديم وسعى إلى تطويعه حتّى يبتكر الجديد. فالرواية ذات بنية فريدة وكأنّها سلسلة من أقسام القصيدة لا سيّما وأنّ صاحبها قد نظمها في شكل فصول مستقلّة عن بعضها البعض في الظّاهر توحي بأقاصيص منفردة بنية ومضمونا لكنّها في الحقيقة نصوصا متماسكة ولنا في النثر القديم أمثلة عدّة. فالرواية تتناص مع ألف ليلة وليلة وتجنح إلى خيال المعرّي في رسالة الغفران،  والهمذاني في المقامات و الجاحظ في الفكاهة والنوادر. لكنّ هذا التناص توقّف عند حدود الشكل لأنّ الكاتب قفز بالمضمون إلى ما بعد الحداثة. فلم يُبق على الأسطورة كما هي في ألف ليلة وليلة. بل استلهم منها صورتي شهريار ( هاشم) وشهرزاد ( مريم) والسندباد ( حذام). وهذه العودة حتّى يتمكّن الكاتب إلى النفاذ بسلاسة إلى المسكوت عنه. فذلك السندباء تمكّن من الكشف عن مأساة المشرّدين وشهريار وشهرزاد أحيا جزءا منّا كدنا نقتله وهو الحبّ المثالي بعد أن وقعت الرواية اليوم في مستنقع الجنس. فالكاتب بصوته العالي يرفض ذلك الوقوع ويصمد إزاء هذا الاجتياح. 

ورواية " الدجّال" بهذا المعنى هي كما قال أدونيس " مفرد بصيغة الجمع" هي رواية جمعت أجناسا مختلفة قديمة وحديثة لأنّ تلك العناوين المصدّرة لكلّ فصل تُعيدنا إلى المقامات وتجنح بنا أيضا إلى جنس حديث وهو الأقصوصة. وصاحبنا بارع في كتابة الأقصوصة ولو قرأنا الرواية فصولا منفردة لقلنا إنّها مجموعة قصصيّة تُعالج كلّ أقصوصة منها ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية. 

2- البنية السطحية والبنية العميقة:

هي ثنائية ظهرت في كتب اللّساني الأمريكي المعاصر نوام تشومسكي Noam chomsky وتحديدا في كتابه البُنى النحوية. وتعدّ هذه النظرية الجملة متكوّنة من بنية سطحية تمثّل سلسلة الأصوات المنطوقة وبنية عميقة تمثّل الوجه الدلالي لتلك الأصوات. والصّليعي في طرحه للشخصيات نحا هذا المنحى. فبدت دلالة الشخصيات ترجمة لمنطوقها الصّوتي بل تعدّت إلى أبعادها التداولية وحتّى العرفانية:

هاشم: وهاشم من الكلمات العبرية يُقصد بها " الله" عزّ وجلّ وقد اُستخدمت هذه الكلمة بدلا عن لفظة "يهوه" وذلك في " بيريشت التكوين" 4:2 " هذه مبادئ السماوات والأرض حين خلقت يوم عمل هاشم الإله الأرض السماوات والأرض.

وفي العربية الّذي يهشم أو يحطّم أي كسر الشيء الأجوف واليابس، وهاشم هو جدّ الرسول الّذي أوّل من ثرد الثريد أي هشم الثريد وسميّ هاشما.

وهكذا هاشم في الرواية بدا عقلا خالصا متساميا عن الجسد رمز الرذيلة والسقوط في مستنقع الحقارة. وهو رجل بدويّ عاشق للصحراء تلك الّتي أنجبت الشعراء العرب ومنها استلهموا أفانين القول. وهاشم هو فنان خالق مبدع ينطلق من الواقع ليعيد تشكيله على نحو فنيّ  بديع. يُمثّل بانتمائه إلى الصحراء الروح العربية الخالصة فهو رجل ذو قيم أخلاقية رفيعة، عبقريّ في النقد والشّعر والفنّ. انتصر على خصومه بتواضعه المعهود. وعلى الرغم من انتمائه إلى الصحراء ومحافظته على طريقة لباسه بدا تقدّميا بانتصاره إلى قصيدة النثر بل إنّ إبداعه الفريد يتجلّى في مواكبته للحداثة لا شكلا بل مضمونا. 

والطّريف في هذه الشخصيّة أنّه راو وبطل في آن كما الصليعي. هو الراوي الشّاهد على الأحداث والنّاقل لها وهو الّذي أخذ الرواية إلى منزل عبد الرحمان في النهاية وأعلن وفاته. إنّه إله النصّ ومبدعه. وهو أيضا بطل محكوم بالحضور والغياب، يحرّك الأحداث فيحضر متى تشابكت وآلت إلى مستنقع الحقارة ويغيب متى أمكن لراويه أن يمسك بزمام السّرد.  

 هاشم إذن هو إله العقل الخالص المتاسمي المترفع عن رذيلة الجسد، وهو الإله، إله النصّ وناسج خيوطه وحبكته، هو إله الشخصيات يُحرّكها وفق إرادته، وهو إله الشعر الجديد " أدونيس". ألم يقل ذلك الشّاعر:

شعلة العشق لا تنطفئ في حياتي. وإذا انطفأت تنطفئ حياتي فورا.. اعشقْ تجدْ الوجود كلّه عشقا. واكره تجد الوجود كلّه كرها. الحبّ قضية ووجود. عالم بلا حبّ، حياة بلا معنى.

 ألم تقل حذام عنه : " هذا الفتى كناري مُغرّد" ( الدجّال: 36).

فهل يكون هاشم هو الدجّال، هو شيطان شعر الصليعي، هو إله الأدب أنتج سفرا من أسفاره. وليست الرواية من صنف تلك الكتب الّتي تستعرض آيات مختلفة.

مريم: في معناها الأعجمي هي العابدة والخادمة للربّ، وفي اليونانية " ماريا" رقيقة لا تحبّ علو الصوت. 

وتمثّل مزيجا من حضارتين الشرق والغرب ويعدّ اتّصالها بهاشم انتصارا للعقل الخالص والروح المحض تقول:" أليس بإمكان الفتيان أن يدركوا حقيقة جوهر الحبّ والصّداقة؟ لماذا لا يضحّون بطبيعتهم الشهوانية؟ فالناس مثلا ينتحرون رغم جمال الحياة ويقترفون آلاف الحماقات ولا فارس من بين ألوف العاشقين يمتنع عن رغباته الحسيّة. ( الدجّال: الفصل5). وهي تمثل مزيجا شعريا بين القصيدة العمودية الّتي يكررها هاشم من ذاكرة حضارته وقصيدة النثر الوافدة من الغرب. ومن الناحية الفنيّة تمثّل مدار القصّ لكون معظم الشّخصيات تُحيط بها من كلّ الزوايا ( هاشم وشارلوت وتوماس ونوال وحذام وغازي والشيخ). لذلك تمثل الخيط الرفيع الرابط بينهم كقصيدة النثر الرابطة بين جنسين مختلفين تماما كما ربطت بين شخصيتين متناقضتين: (هاشم وتوماس). 

هاشم ومريم وجهان لعملة واحدة شخصيتان متكاملتان تسموان إلى عوالم الفضيلة والمثل. ولمّا فشلا في التواصل في المدينة كانت الصحراء موضع نبوءتهما وتخليد بصمة التماهي في قُبلة كانت في محلّ القِبلة.

توماس: هو الغريب الغازي فيه وجه من وجوه غازي بعض الملامح. مادي غارق في المادية: المال والجنس. لم ير مريم البتول سوى كتلة جسدية مغرية. فعوض أن يغازلها ويستفزّ قلبها فإنّه حاول أن يقتحم جسدها عبر قبلة وحشية. لذلك يُمثّل وجها من وجوه الحضارة الغربية المادية النفعية والبراغماتية. والحبّ عنده التقاء للأجساد لا التقاء للأرواح. وهو من جهة أخرى الوجه المقابل لهاشم والمناقض له لذلك يلتقيان في آخر الرواية فيفرّ هاربا ويلقي ما بيده :"  وفوجئ بتوماس يهرول مُسْرعا والزّبد يتطاير من شفتيه، حاول الابتعاد عن طريقه، لكنّ الفتى دفعه دون أن يعتذر وهو لا يدري بالمتاع الذي سَقط منه لدى العتبة، فتسمّر هاشم في مكانه يرقبه وهو يغيب في المُنعطف وانحنى يلتقط مُغلّفا ثقيلا، وفي نيته أن يعيده إلى صاحبه" ( الدجّال: الفصل 42).  

ومن خلال هذا الالتقاء يُقيم الكاتب صراعا بين عالم الفضيلة وعالم الرذيلة، وبين عالم المثل والروح وعالم الجسد. ويعلن صراحة انتصار الأوّل على الثّاني. ولعمري فإنّ الكاتب يُشرّع إلى عودة المثالية بعد أن غرق الكون في مستنقع الجسد. 

غازي: من الغزو، غزا كلّ الميادين: القانون والصحافة والأدب والنقد، وغزا كلّ القلوب والأجساد: نوال وشمس وقمر وغيرهنّ كثير...  " فلم يمرّ يوم حتّى يراه النّاس في القنوات التلفزية يستعرض مقدرته على السفسطة والديماغوجيا وإبهار العامّة والخاصّة في فنّ الكلام" ( الدجّال: الفصل 33). وهو نموذج للشخصية الانتهازية بامتياز( وفي وطننا كثر ولعلّ الكاتب لمّح إلى شخصية بعينها). هرب في بداية الثورة، مختبئا في الأرياف وهو مثال على جبنه وانتهازيته.  وقد غزا مرّة أخرى عالم الصّحافة، لكن إله النصّ ينتقم منه أخيرا حتّى يُشفيَ غليله ودفع الهدّاجي إلى السخرية منه وكشف كلّ أعواره. فانتهى نهاية فظيعة إذ كست وجهه " جيوش من البعوض والذباب تعرّشت فوق عنقه وشعره وجانبا من وجهه" ( الدجّال: 39)

نوال: هي الوجه الثّاني من غازي المخالف له. ورغم ذلك أحبّته. كان غازي مثالا للانتهازية والوصولية وكانت نوال مثالا للأدب والالتزام. سعت إلى مساعدة الأدباء الشبّان وأحضرت الهدّاجي حتّى ينتقى لها من المحاولات أفضلها فكانت سببا إلى إعلاء صوت جديد يسمّى قصيدة النثر عن طريق مريم وكانت ملتزمة طيلة حياتها بحبّ غازي مع أنّه كان لها أن تنتقم منه عن طريق غريمه المبروك بيد أنّها آثرت الحبّ وسكنت إلى غازي زمن محنته. 

مبروك: من فعل برك وليس من البركة في شيء بل برك أي ثنى رجليه وألصق صدره ومنطقة بطنه بالأرض. فمبروك هو البارك في مستنقع العهر. لا عذر له. فقد احترف الإجرام واللصوصية. وجه من وجوه المجتمع الدنيء في المدينة الغارقة في العهر. تلذّذ بجميع أصناف الملذّات. المتاجرة بالصبيان، المخدّرات، التهريب وغيرها. لكنّها تبقى شخصية فريدة في ربطها بين عالمين: عالم علوي أرستقراطي تمثّله نوال وعالم سفلي يُمثّله الصبية. 

شارلوت: شخصية غربية في الاسم والمعنى والتفكير. وتمثّل من الجهة الفنيّة وجها من وجوه التناص في الشخصيات إن صحّ التأويل لكونها بطلة من بطلات احدى روايات " غوتة". لكن بمعطى مخالف. لكنّها شخصية أربكت الكاتب وظلّت غامضة في ذهن القارئ لا يعرف عنها سوى أنّها رسّامة وزوجة لرجل أعمال وأمّ لمريم. راكدة من النّاحية الفنية لم تسهم في تطوّر السرد على أنّ حضورها مهمّ لا سيّما في ذلك الرّبط بين عالمي الشمال والجنوب، الشرق والغرب. 

العياشي: شخصية نموذجية رمز الوفاء والإخلاص. فهو " رجل متديّن على خلق"( الدجال: الفصل 11). ولكن وجه الغرابة فيه أنّه تزوّج من جنّية تُسمّى " ريماس" ومعنها المعجمي مُتعدّد منه " كتمان الخبر" و " الطّير الّذي يطير" و " الرياح الدوافن للآثار" وغيرها. ومن ريماس والحاج العياشي خُلقت الفتاة " حذام" شخصية غريبة.

ومن خلال هذه الشخصيات يلج الصليعي إلى عالم الأسطورة لا لنقد الخرافات بل لإعادة تشكيل الواقع على نحو آخر. 

حذام: شخصية فريدة ذات أنصاف:" نصفها ملاك، ونصفها الآخر جان. بعضها إنسي وبعضها الآخر نبيّ. ولو اعتبرنا الرواية من صنف " الرومانسية الجديدة" لقلنا إنّ حذام نبيّ من الأنبياء، أو شاعر من الشعراء الرومانسيين لأنّها تتنبّأ بما لم يتنبّأ به الإنسان العادي. وهي قادرة على الولوج إلى بواطن الشخصيات. 

وشخصية هي وجه آخر من شخصية الكاتب من جهة السرد فالّذي يستعصي على الكاتب قوله تنطق به حذام لذلك بقيت تُحلّق في عالم المثل مع الشعراء والفنّانين الحقيقيين بل أكثر من ذلك كشفت مأساة المشرّدين ودعت إلى نصرتهم وسعت إلى حمايتهم من العصابات. ردّت حذام قائلة:

ذلك ما وقفت على حقيقته، فحين أدركتهم شاهدت ذلك الشاب الرّهيب الذي يبتزّهم ويعنّفهم، وحين  انتبه لوجودي طاردني في الأزقة والمُنعطفات وكاد يُمْسك بي.( الدجّال : الفصل 27).

فحذام بهذا المعنى هي الوجه الآخر للسّارد بل للكاتب الّذي سعى على امتداد روايته إلى نشر المثل ونقد عالم الشرّ وسعيه إلى الحدّ منه.

الهدّاجي: ليس أبلغ من قول الكاتب عنه كان:" ناقدا من الرّعيل الأوّل متبصّرا لفنون الأوّلين والآخرين. يعرف الجميع أنّ ملحمة حياته المهمّشة جعلت منه تمثالا صادقا للضياع، شاعر كرّس نفسه للكلمات فلم تجلب له غير الدّمار ووهب عمره للحبّ فلم يجنِ غير الأشواك. ( الدجّال: الفصل 14).

هو مثال للمبدعين الّذين تنكّرت لهم الحياة. والكاتب يُعلن صراحة، من خلال الهدّاجي، موت نظرية الفنّ للفنّ.  

المشرّدون: الغريب في الأمر أنّ الكاتب تعالى عن وصف جميع الشخصيات إلاّ نادرا وفي المقابل ركّز على أوصاف المشرّدين. فتغافل عن أسمائهم وعرّفهم بصفاتهم وهم " الأعور، السّمينة، النحيف، المصاب بالجذام، ذو الندبة، زاقالو". فالصليعي بهذا التوصيف يغوص في مأساة هؤلاء المشرّدين الّذين يعيشون في الأقبية ولا يظهرون إلاّ في الظلمة. يقول على لسان أحدهم:" حين ألفى الصّبي نفسه في الشارع وشعُر بالأمان، أطلق ساقيه للرّيح وهو لا يكاد يُصدّق بالنّجاة فكادت تدهسه سيّارة مكشوفة يمتطيها فتية مخمورون، يرفثون ويلوّحون بأنخابهم في الهواء، فوقف على الضّفة المُقابلة ينتفض كالدّيك المُبلل والوحل يتناثر من حذائه. تفقّد  سلامة بدنه من أيّ سوء ثم أرسل صوته بالصّفير وتلك لغة لا يفهمها غير المجانين من أصدقائه، يُعلمهم بها أنه تعرض لخطر بالغ ونجا منه بفضل ذكائه وأطلق صافرة ثانية مُقطّعة تحاكي صوت البلبل، تعني أنّه يحتفل على طريقته بنجاة أحشائه من الدّهس على الإسفلت" ( الدجّال: الفصل 17). 

  الشخصيات في رواية الدجّال هي رموز ذات دلالات مختلفة. وقد وظّفها الكاتب خدمة لأغراض الرواية إمّا نقدا أو تعاطفا. وتكشف الشخصيات عن واقع المجتمع التونسي المتناقض الألوان: فنّانون، انتهازيون، مثقّفون، مبدعون، شعراء، روائيون، مشرّدون... فالرواية التفتت إلى كلّ الشرائح الاجتماعية. والغريب أنّ كلّ الشخصيات تقريبا لم تتغيّر في نهاية الرواية سوى غازي الّذي انتقم منه صاحب الدجّال في النهاية وأخرجه في صورة سيّئة. خلافا لبقية الشخصيات أمثال مبروك الّذي تركه يهيم على وجه الأرض بل اختفى على الرغم من شناعة أفعاله. فكأنّ صاحب الدّجال ينتقي ممّن ينتقم منهم. وربّما في قراءة أخرى أنّ نهاية غازي تُعلن عن نهاية الحزب الّذي ينتمي إليه بعد مظاهر تعفّنه وأنّ الّذي لسعه هو المجتمع بعد أنّ كره تعدّد ظلمه وانتهازيته، لا سيّما وأنّ مكان اللّسع في القبو المظلم المتعفّن ذلك الّذي يشهد على مظاهر تعفّن الشّخصية.

وأنّ انفلات المبروك إحالة على تفشّي الجريمة أكثر إثر " الثورة". فهو يسعى إلى الهرب خارج البلاد شأنه شأن الكثير من الانتهازيين والمجرمين، فلئن كان غازي يحيل إلى رموز الحزب فإنّ المبروك يُحيل إلى العائلة الحاكمة تلك الّتي تمتلك وساطات مختلفة وتعمل ظاهرا في إطار مُنظّم كمبروك العامل الّذي يتقاضى أجرا مقابل خدماته ولكنّ الوجه المظلم فيه أنّه يُمارس مهاما أخرى لم تظهر للقارئ إلاّ شتاتا.

الشخصيات إذن حمّالة للمعنى وهي رموز يمكن تقليبها وذلك ما يجعل الرواية في غاية العمق والتماسك. وهي تحمل أسماء وألقابا تمثّل بنيتها السطحية في حين كلّ شخصية تحمل في طيّاتها بنية عميقة وأحيانا بُنى.


3- الراوي: 

من هو الراوي الحقيقي لرواية " الدجّال"؟ إنّه بلا شكّ صاحبها الصّليعي. وهذه الديكتاتورية السّردية أو السيطرة على السّرد أو ما يُسمّيه النقّاد " المستوى الصّفر" قد منعت تعدّد الأصوات ولم يعلُ سوى صوت إله النصّ باعتبار عالما بأدقّ تفاصيل شخصياته. لذلك ضعف الحوار إلى حدّ كبير ولم يظهر إلاّ عند رغبة صاحب النصّ فيكون أحيانا مطوّلا في شكل فقرات. وبهذا فإنّ الكثير من المواقف تبّانها الصّليعي عوض شخصياته وأنطقها أحيانا بما لا تحتمل. ومن أمثلة ذلك:" غير أنّها عاشت حياة مشوّهة تجمع بين الشكل والجنون..." ( الدجال: الفصل4) / كانت تعضّ إبهام النّدم لتخاذلها في تخليد صورته بأناملها ( الدجّال: الفصل10)/ فكان لها ما أرادت ... واكتملت سعادتها.."( الدجّال: الفصل 12) / قصّ عليها كلّ التفاصيل بتمهّل ... ( الدجّال: الفصل 15)/ لم يكن جسد مريم الأنثوي مثالا للشّهوة ( الدجّال: الفصل16).

ومثل هذه الجمل كثير ممّا ينطق به الصّليعي عوض شخصياته. فكان عليه أن يسمح للشخصيات بأن تعبّر عمّا يُخالج صدرها. ومع ذلك بدا الرّاوي متحكّما في السّرد مُدركا لمختلف التفاصيل قادرا على التلاعب بالحكاية إظهارا وإخفاء فأنتج التشويق الّذي هو أصل السرد الروائي فشدّ القارئ بل بعثر ذهنه ودفعه إلى التفكير ولعمري فإنّه أبدع في إرباك القارئ إرباكا عظيما دفعه إلى إعادة الرواية مرّات ومرّات حتّى يتمكّن من فكّ شفراتها. 


4- المعاني الأول والمعاني الثواني:

لن نعوج في هذا المقام إلى شعرية الرواية ولا يُمكننا إنكار الشعرية فيها بل إنّنا إلى تأكيده أميل ولذلك سنبحث مباحث أخرى من قبيل ما سمّاه الفيلسوف سورل " مبدأ قابلية الإفصاح" و" مبدأ القصدية". المبدأ الأوّل وهو قابلية الإفصاح ورد في كتاب سورل ( 1972) وينصّ على أنّ المخاطِب بإمكانه أن يُفصح أو يُصرّح بكلّ الأعمال الّتي يُنجزها في أقواله. لكن أثناء الممارسة الفعلية لعملية التلفّظ اكتشف أنّ بعض الأعمال لا يمكن للمتكلّم أن يفصح عنها إمّا قصدا منه وإمّا لطبيعة اللّغة (سورل: 1972 ص 54). والمبدأ الثّاني نابع من الأوّل وهو أنّ الإنسان حين يتكلّم يسعى إلى التعبير عن شيء مّا بمعنى أنّ السلوك اللّغوي هو سلوك قصدي( سورل: 1972 ص 83). ويمكن الاسترسال أكثر في نظرية الأعمال اللّغوية للحديث عن الضمني في أعمال ديكرو. والمقصود به أنّ للمتكلّم، لحظة التلفّظ، معنى صريحا وآخر ضمنيا. 

والصّليعي في روايته الدّجال قد اعتمد هذا المنهج بوعي وبغير وعي. فقد اجتمع في الرواية الفصيح وأحيانا العامّي كما اجتمع الشعر والنثر، الرسم والتصوير في قوله:

باعوا الجمل والنّاقة ... وعملوا بهايم في الغيب نهّاقة

برّي يعطيك حمرا بلباشة يعطيك ثردة "، " برّي يعطيك نطّاط البل يسْحقك ".

 فتردّ الأخيرات قائلات:

" برّي يعيطك داء ايحُكك يا منجوهة يا مُودّكة ".  ( الدجّال: الفصل 8)

وفي قوله:

في حضرة من أهوى

لعبت بي الأشواق

حدّقت بلاعين ورقصت بلا ساق

وزحمت بطبولي وراياتي الآفاق

مملوك لكنّي سلطان العشّاق     ( الدجّال: الفصل 13 ).

ولمّا اجتمعت هذه الثنائيات فإنّ الرواية تُقرأ قراءات مُتعدّدة بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفي. والرواية روايات يتناسل بعضها من بعض. رواية هاشم ومريم، رواية غازي ونوال، رواية العياشي وريماس، رواية المبروك والصبية... كلّها روايات تنضوي تحت رواية الدجّال الأكبر. 

الرواية الأولى هي الدجّال ذلك الّذي يربط خيوط اللّعبة فيعجز عن فكّها في النهاية فيلتجئ إلى دجّال آخر أتى لبيع نصوص روائية على ضفاف الإبداع. وهنا تكمن اللّعبة الفنيّة فكأنّ رواية الدجّال الأولى واقعية بشخصياتها وأمكنتها وأزمنتها وأحداثها، وبقية الروايات من نسج خيال كاتبها. فالصليعي يُحاكي الواقع في شخصياته وإطاره وأحداثة ثمّ يُعيد نسجه فنّيا. فخلق ثنائيات الأوّل منها واقعي والثّاني فنيّ. ومثالنا في هذا مثلا هاشم والهدّاجي. شخصيتان تُمثّلان الإبداع في الفنّ لكنّ الهدّاجي مُنتج من صميم الواقع، شخصية تلقّفها الكاتب كما هي دون أن يُغيّر فيها وهاشم شخصية فنيّة مثالية لا يُمكن لها أن تُوجد في الواقع بل هي حلم الصّليعي وما يُريد أن يُنتجه. ويمكن أن ننسج على هذه الثنائيات أمثلة: مريم ونوال، شيخ القطار وحذام، غازي ومبروك، توماس وشمس وقمر،... كلّ ثنائية من هذه الشخصيات تتبنّى الموقف نفسه بيد أنّ الكاتب حافظ على بعضها وأنهى حياة البعض الآخر.

ومن تجلّيات المعاني الثواني ثنائية الرّيف والمدينة. فقد حافظ ظاهرا على النظرة التقليدية حيث صفاء الرّوح وجمال الطبيعة في الرّيف وانتشار الجريمة في المدينة يقول:" كانت الحُروف تتناثر في جلاء تامّ وكأنّها تلفظ من مكبّرات الصّوت وقحة لا تهذيب فيها، يسْتوي في البوح بها الثرثارون والصّامتون من أبناء الحيّ ممّن يُظنّ أنّهم مُهذبون أو مَنْ لا يُشك  في نزقهم وفحشهم وقد همّت في مرّات عديدة أن تنقضّ على أحدهم لتأديبه فيصدّها خلقها وخجلها الفطري. ( الدجّال: الفصل 12). ثمّ أضفى عليها أبعادا جديدة. فالمدينة ساحرة ومجال سحرها الفنّ والأدب. فقد تركّزت الرواية في معظم أحداثها على " شمس الأدب" تلك الّتي أنتجت ثُلّة من المبدعين أي أنّ المدينة ليست جمالا معماريا كما صوّرها أغلب المبدعين بل المدينة ولاّدة للفنون والإبداع. ومن جهة أخرى احتفى بالصحراء على طريقة " الكوني" بل مزج فيها بين الطهارة والمثالية والإبداع الشعري. ومن هذا المنطق يُعيد تشكيل الرواية الصحراوية برؤية جديدة. فمقصد الكاتب جليّ وهو إعادة الاعتبار للبيئة الصحراوية لأنّ الصحراء في تراثنا هي الّتي أنتجت الشعراء الأفذاذ. وعلى الرغم من ذلك لم يحتف بها الأدباء العرب.

وما يدعم هذا التوجّه هو نهاية رواية الدجّال في الصحراء باعتبار من وجهة نظر أخرى رمزا للنبوءة الشعرية – وحتّى الدينية- حيث التقى فيها هاشم ( رمز القصيدة العمودية) ومريم ( رمز القصيدة النثرية). تُرى ماذا سيُنتج هذا الزواج؟ أي نوع من الإبداع الروائي أو الشعري؟ هل تكون نبوءتهما ولاّدة لكتاب جديد فوق التصنيف؟

لقد جعل الصليعي روايته مزيجا بين الشعر والنثر أو كما يحبّذ تسميتها بقصيدة النثر. فالدجّال الحقيقي بهذا المعنى يسعى إلى إنتاج ضرب جديد من الكتابة الإبداعية. وهي كتابة لم يجد لها النقاد بعد عنوانا جديدا وحتّى تلميح الصليعي لها ب" الواقعية السحرية" هو ضرب من العبث بل مدعاة إلى إعادة التفكير في معنى الواقعية السحرية؟




Post a Comment

Previous Post Next Post