استيقظ أحمد من نومه
ليتوضأ ويصلي صلاح الفجر، توجه بعد ذلك إلى مساعدة والده في بيع الخبز، أحمد طفل
عمره عشر سنوات انقطع عن الدراسة بسبب تعرضه للتنمر من طرف أصدقائه بالقسم. كان
يتلعثم في الكلام ويجد صعوبة في نطق الكلمات. كان يفضل البقاء صامتا طوال الوقت لكي
لا يقول كلمة تجعله محط أنظار التلاميذ وحديثهم، لم يعد يحب أصدقاءه كما كان في
الأول. حتى في مساعدة أبيه يبقى صامتا يبيع الخبز ويقول في نفسه: سأعود إلى
الدراسة مرة أخرى ولن أولي أي اهتمام لما يقوله التلاميذ.
سأله والده: فيم تفكر يا بني؟
أجاب أحمد: أريد العودة إلى المدرسة يا أبي.
قال الأب: منذ أن غادرت المدرسة أصبحت في حالة جيدة
وتساعدني في عملي وتتعلم التجارة.
لم يرد أحمد بأية عبارة أخرى حتى بصرت عينه زبونا يريد
شراء الخبز، إنه المعلم الذي كان يدرسه في المستوى الرابع، فاختبأ بين أكياس
الدقيق لكي لا يراه المعلم.
قال المعلم: السلام عليكم، من فضلك أريد خمسة عشر خبزة.
قال البائع: مرحبا سيدي.
قال المعلم للبائع: هل تشتغل لوحدك وأنت كبير في السن؟
قال البائع: إن ابني يساعدني طوال الوقت بعد أن غادر
المدرسة بسبب التنمر.
قال المعلم: التنمر؟ وأين هو ابنك الآن؟
وقف أحمد وهو يرتعش من شدة الخجل والدهشة.
قال أحمد: أنا الذي أساعد والدي، لقد اشتقت إليك يا
معلمي.
عانق المعلم الطفل أحمد بحرارة وقال: اشتقت إليك أيضا،
كنت تلميذا مهذبا وذكيا وكنت أبحث عن منزلك لأتحدث معك عن سبب مغادرتك للدراسة.
كانت كلمات أحمد متقطعة ومتباعدة في الزمن، لكنها تحمل
في طياتها معاني الصدق والبراءة والحنين للدراسة والأصدقاء.
قال البائع: لا أريد أن يبتعد ابني عني بعد الآن، فهو
الذي يساعدني في عمل.
قال أحمد: يا أبي. إن المدرسة ستعلمني كيفية مساعدتك رغم
المضايقات التي أتعرض لها.
قال المعلم: لا تستسلم يا أحمد، أصدقاؤك مازالوا صغيرين
ولا يعرفون ما يفعلون. إنهم يظنون أنفسهم يلعبون معك، الكل يشعر بما تحس، لكن لا
أحد يريدك أن تكون وحيدا منعزلا عن الناس.
قرر الأب بعد ذلك السماح لابنه بالعودة إلى الدراسة بعد
أن فكر كثيرا وتأكد بأن المدرسة هي الموطن الأصلي لطفل مثل أحمد، وبعد أن وجد رجلا
يساعده في بيع الخبز.
كان شعور أحمد في ذلك اليوم لا يوصف، كانت فرحة عارمة
تغمره في الليل والنهار...
وعده المعلم بأن مشكل التلعثم سيزول إذا سمع لنصائحه
وإرشاداته، وألا يعير اهتماما لما يقوله أصدقاؤه المتنمرين.
قدم أحمد وأبوه الشكر الجزيل للمعلم على كل ما قدمه
لهما. وفي اليوم الموالي، استيقظ أحمد من نومه الثقيل، وكما العادة توضأ وصلى صلاة
الفجر تناول وجبة الفطور المكونة من الخبز والبيض والزيتون والشاي الذي أعدته له
والدته بكل حب وعطف وحنان، لأن الأم هي مصباح البيت، و " الجنة تحت أقدام
الأمهات" لذلك يقوم أحمد بتقبيل رأس أمه كل يوم ويستقبلها بكلام طيب طمعا في
رضاها وراحتها... لما تناول أحمد وجبة الفطور جمع أدواته المدرسية القديمة ومسح
الغبار عن المحفظة السوداء ووضع بداخلها دفترين وكتابا للغة العربية وبعض الأقلام
وقطعة خبز وقنينة ماء، لأن المسافة طويلة بين البيت والمدرسة وقد يجوع أو يصاب
بالعطش...
وفي الطريق إلى المدرسة وجد طفلا آخر يسير ببطء فحمل عنه
أحمد محفظته الثقيلة رغبة في مساعدته. لأن تقديم المساعدة واجب على المسلم تجاه
أخيه المسلم، شكره على ذلك ومضيا في طريقها يتبادلان الحديث. الطفل اسمه خالد
ويدرس في المستوى الثالث، انتبه إلى تلعثم أحمد فسأله: هل تجد صعوبة في نطق
الكلمات؟
قال أحمد: نعم ولكني أحتاج إلى ترويض مستمر لكي أتمكن من
تجاوز هذا المشكل.
قال خالد: يجب عليك أن تصبر لأن المعلم قال لنا بأن
الصبر مفتاح الفرج.
بعد نصف ساعة من المشي، وصل أحمد وخالد إلى المدرسة
وسلما على الحارس ودخلا فتوجه كل منهما إلى فصله، لكن أحمد ذهب إلى الفصل الذي
يتواجد فيه المعلم الذي اشترى منه الخبز يوم أمس. انتظر أمام القسم برفقة عدد من
التلاميذ قدوم المعلم في صف منتظم...
جاء المعلم البشوش السعيد وقال: صباح الخير.
رد التلاميذ بصوت واحد: صباح الخير يا أستاذ.
أمر المعلم التلاميذ بالدخول، جلس كل منهم في مقعده وجلس
المعلم في مكتبه الخشبي، توجه التلميذ أحمد عند المعلم وشكره على مساعدته له
وتشجيعه المتواصل.
خلال فترة الاستراحة جلس أحمد وحيدا وإذا بمجموعة من
التلاميذ يتوجهون صوبه ، بقي خائفا وظن أنهم المتنمرون، إنهم كذلك. لكن هذه المرة
مختلفة عن ما سبق، قدم له كل فرد منهم هدايا وملابس وكتب ومحفظة وأدوات ورسالة
اعتذار، نزلت دموع الجميع خلال ذلك الحدث الرائع. اجتمع حشد كبير من التلاميذ
والمعلمين لمشاهدة جو من الأخوة والصداقة وسط تصفيقات حارة من الجميع.
عاد أحمد إلى المنزل وكله فرح وسرور لأن معظم مشاكله قد
ابتعدت اليوم، وعندما وصل إلى البيت قبل يدي والدته وأخبرها بما حدث فشكرت الله
كثيرا.
بقي طوال الوقت مبتسما يتمرن على كلماته ويراجع دروسه،
وفي الغد التقى بصديقه خالد خلال ذهابهما إلى المدرسة فتبادلا الحديث حتى وصلا.
فرح أصدقاء أحمد بعد عودته للمدرسة وحسرتهم على الذنب الذي اقترفوه بسبب تنمرهم
عليه، الاعتراف بالذنب فضيلة، وإصلاح الخطأ ليس عيبا، لذلك ذهب الأصدقاء الجدد عند
المعلم وأخبروه بأنهم لن يكرروا فعلتهم فسامحهم.
بقي أحمد يتدرب طوال الوقت على نطق الكلمات بشكل صحيح
ويحاول جاهدا تجاوز مشكل التلعثم. كان كلما عاد إلى البيت يراجع دروسه ويذهب خلال
وقت الفراغ إلى مساعدة والده أو والدته، أو يلعب مع أصدقائه الجيران وينسى مشكلة
التلعثم بشكل تدريجي.
لكنه عندما يحاول قراءة القرآن الكريم لا يجد أية صعوبة
في ذلك ويزول عنه التلعثم بشكل كلي، أخبر المعلم بذلك ففرح المعلم كثيرا لهذا
الخبر وقرر مساعدته، خلال حصة تلاوة القرآن الكريم أخبر المعلم أحمد بأن يرتل سورة
الفاتحة أمام كل التلاميذ، راود بعض التلاميذ الشك في كون أحمد مازال لا يستطيع
القراءة بشكل صحيح، فإذا هي تخرج الآيات الكريمة من فم أحمد بطريقة سلسة كأنه في
سن العشرين من عمره. اندهش الكل لذلك ورددوا جميعا: الله أكبر الله أكبر الله
أكبر...
عاد إلى المنزل وأخبر والدته بكل ما حدث فسجدت لله تعالى
حمدا وشكرا، أسرع أحمد إلى والده ليحكي له ما حدث، لما سمع الأب القصة بكى كثيرا
وسجد لله...
القرآن الكريم يهذب النفوس ويبعد السيئات ويزرع في
المداوم على قراءته الأمل والتفوق والاجتهاد.
كبر أحمد وأصبح يبلغ من العمر عشرين عاما بعد نجاحه في
المدرسة الابتدائية الثانوية انتقل إلى الجامعة في مدينة "أكادير"
المغربية ليدرس الدين الإسلامي في كلية الآداب
بمسلك الدراسات الإسلامية، تمكن من حفظ القرآن الكريم كاملا وعاد إلى قريته يعلم
الناس تعاليم الدين الإسلامي ويصلي بهم في حالة غياب الإمام.
في يوم من أيام العطلة الجامعية التقى الطالب أحمد
بمعلمه الذي كان له الفضل بعد الله تعالى في العودة إلى صفوف الدراسة، تعانقا
عناقا حارا وتبادلا أطراف الحديث لمدة طويلة، ولأن فضل الأستاذ على التلميذ كثير
قرر الطالب أحمد زيارة المدرسة التي كان قد درس فيها. والتقى بمجموعة من التلاميذ
فوجد تلميذا يشبه حالته، نصحه بقراءة القرآن الكريم لكي يتمكن من مواصلة مشواره
الدراسي على أحسن وجه.
بعد مرور عشرة أيام سافر أحمد إلى مدينة أكادير ليجتاز
الامتحانات الجامعية، وفقه الله لاجتيازها بنجاح بفضل من الله أولا وبمساعدة من
والديه وأصدقائه، ثم بفضل مجهوده الخاص.
هذا الشعور يمكن أن يحسه كل طالب كان يسهر الليالي
ويجتهد ويصبر ويكابر ولا يتردد في طلب المساعدة وتقديمها للآخرين.
خلال حفل تتويج أحمد بشهادة الإجازة تفضل بإلقاء كلمة
على جميع الحاضرين في القاعة. بدأ بشكر الله تعالى والوالدين والمعلمين وكل من كان
له الفضل في تعليمه، وانتقل إلى الحديث عن أهمية القرآن الكريم في حياة الفرد
والجماعة... واصفا مشكلته بالمعجزة لأنه لم يستسلم للأمر فكان حديثه مسترسلا
ومركزا.
غادر أسوار الجامعة مرفوع الرأس بعد أن قضى فيها ثلاث
سنوات، وعاد إلى مسقط رأسه ليساعد والده الذي ازداد كبره في السن.
لما وصل اجتمع بأهله وأصدقائه في حفل شاي عائلي، قرر في
الصباح الباكر مساعدة والده في بيع الخبز الذي لقي إقبالا واسعا من لدن الزبائن
لأنه يصنع خبزا نظيفا ذات جودة وإتقان.
خلال الليل وقت الفراغ يجتمع أحمد بأطفال
القرية في المسجد يعلمهم أصول الفقه ويحبب إليهم القرآن الكريم ويزرع فيهم روح
التعاون وعدم الاستهزاء بالآخرين أو التنمر عليهم بسبب مشكل نفسي أو ما شابه
ذلك... استمر ذلك سنة واحدة حتى تمكن أحمد من الحصول على عمل يتعلق بالإمامة
والخطابة في المدينة، فانتقل مرة أخرى من القرية بعيدا عن أهله وأصدقائه لخوض
تجربة جديدة مع أناس آخرين في بلاد أخرى.
بدا عمله بكل نشاط وحيوية متواصلين. يجتهد كل الاجتهاد. تطور وتدرج بعد سنوات من العمل. أصبحت لديه الرغبة في
إحداث مركز للإدماج، يعنى بمعالجة المشاكل المتعلقة بالنطق كالتلعثم... فأصبح
مديرا للمركز بعد تأسيسه، استقبل في اليوم الأول خمسة أطفال وفي اليوم الثاني عشرة
أطفال، بدأ يساعدهم على تجاوز مشاكلهم عبر قراءة القرآن الكريم وعدم الانتباه إلى
التنمر الممارس عليهم من طرف البعض، وكان يتمنى أن تعمم التجربة في كافة ربوع
المملكة. خلال يوم من أيام العمل تلقى اتصالا هاتفيا من أسرة تنحدر من منطقة بعيدة تطلب منه مساعدة
ابنتهم التي لا تقوى على الكلام وتبقى منعزلة تماما، تواصل معهم بشكل فوري وتوجه
إلى منطقتهم ليجد الطفلة جالسة لوحدها ترسم الورود في دفتر صغير، انتبه أحمد إلى
أنها تحب الطبيعة فخرج معها برفقة أسرتها إلى حقل صغير مليء بالزهور والمياه
والطيور والفراشات... الطفلة اسمها خديجة، تبلغ من العمر عشر سنوات تتابع دراستها
في المستوى الثالث، أعطاها أحمد ورقة من النوع الممتاز وصباغة وأدوات للرسم، فطلب
منها أن ترسم كل ما تراه أمامها، وهو يراقبها رسمت شجرتين وعدة عصافير وبحيرة
وكتبت عدة حروف أسفل الورقة منها : حرف الراء والكاف والقاف. إنها الحروف التي يصعب
عليها نطقها كما أخبره والدها، عندما كانت تتعرض للتنمر بسبب نطقها المتلعثم كانت
تكره الحروف. لما أنهت خديجة رسم لوحتها كتبت اسمها وجعلتها هدية لأحمد لأنه يرغب
في مساعدتها.
انتقلت معه إلى مركز الإدماج لمدة شهرين
واستفادت من دروس نظرية وتطبيقية، وبفض الله تعالى تمكنت من التخلص من مشكلتها
وأصبحت متفوقة في دراستها وشكرت الله كثيرا.
في بعض الأحيان تكون مشكلتك فضلا في الوصول
إلى أعلى القمم حينما تتعامل معها بالعقل
واليقين في الله تعالى وعدم الاهتمام لما يقوله الآخرون مادمت في الطريق الصحيح.