عن أمّة تنزف دماً - فيصل حامد

 


/ مقاربة نقدية



] وتبقى الحياة على طريقة الرومنطيقية أفضل وسيلة للحياة يتسنى للمرء أن يعيشها في ظل واقع الحروب، و الإنتشار لفيروسات تزهق الأرواح وتكاد تفتك بآلبشرية جمعاء يوما بعد يوم .فماذا إن أضفنا إليهما فساد السياسة؟ و فتنها ومعاركها الضارية وكذبها و ريائها؟ فيزداد الطين بلة، ونصبح أمام خليط هجين من العقد لا يتسنى لنا فهمها وحل شفراتها وهذه بربكم معضلة. و أي معضلة ؟فيتأخر الفهم و يتعطل ويتأخر التقييم .فماذا عسى المرء أن يفعل في ضل هذه السوداوية و الإنهزامية؟ إن الأفكار الهدامة لا تنتج إلا جيلا متآكلا مهزوما لايملك من أمره خلاصا بل تأتيه الحلول من الخارج من مستعمره القريب وجلاده . تم الحكم على جيل كامل بآلموت وهو لم يرى النور بعد حسبه مذلة أن تحكمه نخبة متعفنة تعشق الإنبطاح وحياة المهانة تضرب نفسها بنفسها تغيب الآخر المختلف عنها وتحتقره لا لشيء إلا لأنه لا يحمل أفكارها الغوغائية المتصلبة. وتشحن حقدها وتعقد تحالفات وتقاطعات بالية في  الخارج و الداخل وفقا لهذا الكره. وتجعله مغذي لكل صراعاتها .فتصبح صناديق الاقتراع و ما تفرزه من نتائج  عبارة عن ذر للرماد في العيون. إذ لم تعد لها من معنى ولا مصداقية و لا إعتراف إنما هي تمهيدا لإنقسام أكبر و أكثر عمق إلى حين وصول إنتخابات جديدة، ليسبق الإعلام برسم ملامح لخارطة سياسية أخرى أكثر غموضا و تعقيدا من التي سبقتها وهكذا دواليك. فيضيع جيل جديد جراء الركض وراء أوهام الساسة و أذرعهم الإعلامية المنتشرة و المتفرعة في قنوات المجون و اللهو و تصفية الحسابات دون أن ننسى الدولة العميقة المتجذرة في صميم هذه العملية القذرة تهندس السياسات بخبث منقطع النظير. فيظهر للناس لا تشوبه شائبة هو بمثابة إستحقاق حينما يكون عامة الشعب قطيع .إن فكر العوام و إن كان براغماتيا مسالما إلى أبعد الحدود فهو في السياسة ساذج لا يأتي منه ربح، ويفتقر إلى الفراسة و الدهاء و المكر إفتقارا كبيرا حسبه أن ينشغل بحياته اليومية. لكن البساطة تحتاج للحزم و الذكاء و الوعي السياسي حتى لا يبقى الحال على ماهو عليه ولا تبقى شريحة البسطاء وحدها تعاني أخطاء مجتمع كامل وتطاول نخب إثر نخب وتعجرف ورعونة .ففي زمان المأفونين لا حكم إلا للمظاهر نحن في زمن يحبذ الكم على الكيف و النتيجة على السبب ،إنها أمة لا تأخذ بآلأسباب مع أنه من صميم دينها الأخذ بآلأسباب وهذا ويل آخر يظاف إلى ويلات جبران السبع ويكملها و تلك المقابلة الرائعة بين الشاعر المقلد و الشاعر المجدد أحرى بها أن تنعكس على الحياة برمتها أو أن تصبح مقابلة بين الإنسان الفاعل  و الفعال في عصره في مقابل الإنسان المفعول به الميت الذي لا يستنبط من القديم ما به ينهض بحياته ويضيف إليه. فآلأول يتكئ على القديم فينطلق منه ليأخذه إلى فضاء إبداعي رحب، و الثاني يبقى في القديم مستميتا قاتلا أي محاولة للمضي به قدما عبر إجتراره في قوالب جاهزة ومقرفة يملها الناس.


و هنا نذكر بأن كل محاولة للتجديد في أي مجال من مجالات الحياة تصطدم بآلواقع، إن وقعها لشديد كوقع القلاقل و الزلازل... بادئ الأمر، لكنها سرعان ما تحدث ثورة على جميع مجالات الحياة وتحمل معها فكر جديد كفيل بإبعاد شبح التوجس و الخوف و لو إلى حين .


فلا معنى للثورة في أي مجال من مجالات الحياة المتعددة فكرا كانت أو سياسة أو أدبا أو حضارة...ما لم تقطف ثمارها و تؤتي أكلها وتقطع مع ماهو سائد ولا معنى لثورة ما لم تطهر الأخلاق و تقطع دابر الأخلاق الرديئة المنتشرة في كل مكان وتنسفها نسفا .


فآلثورة صيحة فزع ضد القديم و السائد بدرجة أولى ثم تأتي ببشرى وتطلع للبديل فهي تغيير شامل أو لا يكون. إنها كآلسيل الذي يشق الأرض الميتة فيحول ما فيها من خراب إلى إعمار .إنها هدم و إعادة بناء وفق قواعد جديدة و أسس صلبة و متينة  لبناء جديد وعقد جديد .


فآلبناء الثوري لا يكون بآلعاطفة ولا جبرا للخواطر بل بآلحزم و القوة و الإلتزام الصادق هي معاهدة للنفس قبل أن تخرج للعلن ويقع تثبيتها و إيجاد أطر مناسبة لها.


فآلثورة إيمان عميق بآلتجديد و التجاوز هي نظرة جديدة و ثاقبة للأشياء و الموجودات و المفاهيم هي رغبة عارمة في التغيير و هذه الرغبة تصاحبها قدرة تترجمها على أرض الواقع و إلا بقيت تغرد خارج السرب و أتهم روادها بآلجنون و التخريف.


و الثورة تعيش غريبة ردحا من الزمن تحتاج لبعض من الوقت ليقع فهمها. لكن هذه المرحلة يجب أن تمر سريعة وبردا وسلاما لأنها مطالبة بآلإنجاز وقطف ثمارها اليانعة ،ولو كانت إنجازاتها بطيئة في البداية، بيد أنها يجب أن تسرع و إلا أتهمت بآلفشل وما أسرع الحكم عليها!.


إن أسوء الأمور إغاضة في هذه المرحلة هو أن يبقى هذا البناء الثوري  مجرد شعارات ترفع في المناسبات وتعلق على الجدران ثم بعد ذلك تخفت الأصوات وتموت الجماهير المنادية بآلتغيير وتعود الحياة إلى ما كانت عليه من سالف الفوضى و الفساد و الخراب .


و الثورة تنطلق محلية ثم تنتشر في كامل أصقاع الأرض كإنتشار النار في الهشيم. إنها تنشد ماهو إنساني وتربي الآجيال الجديدة على التحرر، ولا ينبغي لها أن تخدم مصالح أقلية بعينها لأن ذلك ظلم و الظلم ليس من الثورة في شيء بل ويتعارض معها لأن الغاية من إندلاع الثورة تحرير الإنسان من كافة أشكال الإستعباد و التسلط ،فيجب عليها أن تخدم الناس جميعا غنيهم وفقيرهم كبيرهم و صغيرهم عالمهم وجاهلهم...


فمن لا ينشد صلاح الناس لا ينبغي أن يتواجد في المقدمة في أي بناء أو موقع أو إصطفاف له هدف نبيل، لأن أكثر ما تحتاج إليه الثورة هو وجود رموز أمناء متشبعون بقيمها و إلا ذهب مسارها عرض الحائط و حادت عن أهدافها التي قامت من اجلها.


إن وجود هذا الشرط لا مندوحة عنه ولا مناص منه ولا جدال فيه إنه شرط أساسي ينبغي توفره حتى يستقيم البناء الجديد و يشتد عوده و إلا فأي فائدة نجنيها حينما نوكل زمام الأمور لشخص غريب و خائن ونأتي بعدها نتأسف على تضحيات الأجيال؟ إن من يترك الأمور تنفلت منه على هذه الشاكلة كمن يهزأ بنفسه ويضحك عليها، فهذا التناقض الرهيب وهذه المفارقة المقيتة كفيلة بتقويض هذا الإستحقاق العظيم و تضحيات أجيال بأسرها تذهب "هباء منثورا".

ذلك أن الثورة بمثابة فرصة مصيرية ،إنها هدية إلاهية من السماء للتغيير لا تحدث دائما إن لم يقع إستغلالها إستغلالا على الوجه الأكمل بتقويض ماسلف من النظام و إرساء نظام جديد و عقد جديد واضح المعالم عندها سنقع في معظلة التفويت ونبكي على الفوت وقد ننتظر قرون وسنين طويلة علها تأتي بهدية أخرى عندها سندرك كم قمعنا من أجيال و إعتدينا على حقوقها في التغيير.


وهذا الإعتداء كفيل بإحالة حياة الناس إلى جحيم و بؤس إنه كمن يفسح المجال للناشئة الجديدة بأحلام كثيرة و مشروعة تصب كلها في خانة التحرر و الإنعتاق ثم يأتي بعد ذلك و يسحب من تحتهم البساط و يتركهم يتخبطون في كدرهم لتتحول من أحلام و أهداف متاحة إلى كوابيس. إنه لأمر مريب أن تتحول حياة المرء  فجأة من أمل كبير إلى سخط أكبر فعندها تنفلت الأمور و تفقد الحياة رمزيتها بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من التحرر و إستعادة العافية ،لتدخل في مرحلة خطيرة من الألم وفقدان القرار و التسرع و نفاذ ذخيرة الصبر فتكثر الضغائن و يكثر الكذب و الرياء و الغش وما تخلفه من ترسبات يصعب علاجها ،كفيلة بجعل الطابع السريالي يسيطر على حياتنا اليومية .


عندها أي حياة نعيشها؟ يصبح عالمنا عالم أشباح نستفيق على القتل و الجريمة فيكثر الإعتداء و يختلط الحق بآلباطل فلا تعرف صاحب الحق فتنصره ولا تعرف صاحب الباطل فتقتص منه وتزجره.

] فيسود الظلام وتنعدم الطمأنينة و تتعكر النفوس و يكثر الظلم فيظهر التخريب على السطح وهذا التخريب سيطال المكاسب العامة عندها أبشر بخراب الدولة و هذه لمصيبة كبرى عندها لن يفيد الندم على مافات و سلف و لن تنفع الحلول الحينية و الترقيعية ولا الإجتهاد و لا الإرتجال ويكثر التسول وتصبح الخطوات إملائية لا نملك حينها من مصيرنا شيئا و لا من خلاصنا أمرا .


[  ]  إنها مرحلة الإفلاس وهذا الإفلاس لا يعني بآلضرورة المالي فحسب بل الفكري و السياسي عندها نصبح رهن إشارة القوى الإقتصادية العالمية المنضوية تحت لواء البنوك الخبيثة تصبح السياسات بآلمقاس و الإنفاق محدد ومعلوم و الأجور مقيدة وسقف الدين مرتفع، ونبقى في دوامة من الحلول المتهالكة والتي ولى عليها الزمان و مضى عندئذ "لا ينفع العقار في ما أفسده الدهر" .


] إن هذا التعقيد الذي آلت إليه الأوضاع تحدث عنه الشاعر محمد الجلالي و صوره بآستفاضة في قصيدة ألقاها في عديد المنابر قال فيها أن الحاكم في ضل هذا الحال يصبح منصب بآلجوسسة و أقدار الشعوب مزورة وتحاكم الضمائر في هذه البلاد ويكثر التنجيم و التدجيل.


] إن القائد الناجح لشعبه لابد أن يعمل في بداية حكمه على تقوية الداخل وما يعنيه من فرض النظام الذي لن يتم إلا بضمان تكافئ الفرص بين أبناء جلدته وضمان العدل و المساواة وتوفير الرعاية و العناية بضعاف الحال حتى يعيد الإعتبار لشعبه بين كافة الشعوب ولنفسه بين قادة الدول. فيقوى بهم ويستتب الأمن و النظام فتسبقه صورة شعبه وتكون كفة راجحة في التفاوض هي الضامن لجلب المشاريع و الإستثمارات و القادة الذين ذاع صيتهم طبقوا هذه المقولة و عملوا بها لأن مهمته الأساسية هي خدمة شعبه وتحقيق العيش الكريم لأفراده في كنف الإحترام و التسامح وهذه الوظيفة ليست مجانية بل يؤجر عليها ،و إن كانت حمل ثقيل لمن يعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه لأنه من أصعب المهام و أضناها على وجه الأرض سياسة الناس على تنوعهم و تفاوتهم و إتساع الهوة والفارق بينهم ومن يصل لتقلد هذه المهمة الشاقة بطريقة مشروعة فهو ذو حظوة و حظ عظيم. فمادام تعداد شعبه عشرات الملايين وقد وقع الإختيار عليه من بينهم فهو بلا شك ذو حظ ومنزلة أولى به أن يستغلهما في خدمة مجتمعه و تطويره وتحقيق رفاهيته عندها سيدخل التاريخ من أوسع  أبوابه. ولن تمحى إنجازاته و إصلاحاته بل ستقع الإستعانة و الإستئناس بتجاربه و أفكاره و تخلد ذكراه عند كل جيل.


] أما من تخلى عن خدمة الناس و سعى وراء مآرب شخصية فلن يتكبد إلا الجراح وسيسقط من عيون مريديه قبل خصومه و أعدائه لأن من يزرع الشك يجني الضعف و النقص و الوهن و سيقع إستئصاله من مجرى التاريخ أو يقع ذكره في سطر مخجل و يذهب في طي النسيان ذلك أن هذا المنصب على حساسيته يجب أن يبتعد أصحابه عن الشبهات و المناكفات وكيل التهم بل مطالبون بآلعمل و تنفيذ ما يصبو إليه شعبهم ووضع الخطط المناسبة الكفيلة بآلتقدم و الإصلاح. فليس عملهم إضاعة الوقت فهم مطالبون بآلنتائج و إختصار المسافات و إيجاد الحلول الأنية الضرفية ورسم الإستراتيجيات البعيدة لتصبح عملية الإصلاح مسار يساهم كل من يتقلد المنصب في بناء لبنة من لبناته حتى يستوي البناء من القاعدة إلى القمة أما غير ذلك فهو هراء و نعيق وهدر للوقت.


] أما ما يسمى بآلمعارضة فهي خلقت لتعارض كل أمر يتناقض مع مصالحها هي لا مصالح شعبها و تطلعاته فهي ملاذ آمن و غطاء لكل من تتعلق بهم  قضايا الفساد و المتهربين من الضرائب و المحاسبة من رجال الأعمال و الشخصيات النافذة فكل حزب بما لديهم فرحين.


] لا تتخلى عن دورها الهدام و التقويضي فهي تحشر من يتقلد الحكم في الزاوية الصغيرة حالها في هذه البلاد كحال موسى مع بني إسرائيل فبعد أن إشتد عليهم الخناق قالوا له "إذهب أنت وربك فقاتلا ".


] تتركهم يواجهون المشكلات وحدهم ثم قبل أن تتيقن من فشلهم تسحب منهم الثقة و تتركهم يتجرعون غصص الخيبة وحدهم بعد أن وضعتهم في الواجهة مع كل الصدامات .


] ماهكذا تجري الأمور!، فآلأحزاب التي لا تمارس الحكم يجب أن تساهم في البناء بقوة الإقتراح و بآلمعارضة البناءة وتقوم إعوجاج المسار وتعرف متى يجب الصمت والتهدئة  و المهادنةو متى  يتطلب الأمر  الخروج و المعارضة لأن الوقت ثمين أجدر أن يستغل في العمل على أن يهدر في الإتهام و التعطيل.


] وكم من قرار لم يقع إتخاذه في أوانه فوت على البلاد الكثير من الفرص و النجاحات وكم من قرار أتخذ في غيره محله و في غير وقته بل متسرعا ومرتجلا دون تفكير في العواقب كان ظالما في حق الكثير من أبناء هذا الشعب.


] لا بد في هذه المرحلة بعد أن تحدثنا على رؤوس السلطة من حكومة ومعارضة يجب التنويه على النقابات و فهمهم للحياة السياسية هذا الفهم المبني على المصالح و على الهدم بدل البناء و هنا نتجه بآلحديث إلى أعرق منظمة نقابية في تاريخ هذه البلاد وهي الإتحاد العام التونسي للشغل هذا الشكل من التنظم العمالي هو ثاني نقابة بعد جامعة عموم العملة التونسيين التي ترأسها محمد علي الحامي صمدت في وجه المستعمر وأرقته بخطواتها التصعيدية و إضراباتها العامة وبياناتها القوية وشديدة اللهجة  فكان أن إغتال قيادتها المتمثلة في شخص  محمد علي الحامي و تشتت في مابعد جمعها لتبقى الساحة السياسية خالية الوفاض من العمل النقابي لفترة طويلة ليتم الإتفاق بعدها على إنشاء منظمة نقابية أكثر تنظيما و أكثر شمولية و أكثر إمتداد جغرافيا وصلابة فكانت التسمية إتحادا بدل جامعة ليكون أول إتحاد عمالي تونسي يحقق إجماعا كبيرا في كامل ربوع البلاد وكانت قياداته تحضى بإجماع عمالي واسع لما تتميز به من كفاءة وحب للوطن على غرار فرحات حشاد الذي إستهل خطابه الشهير ب "أحبك يا شعبي " كان همهم تخليص شعبهم من الإستعمار و من حياة الذل و الإستبداد فكان لهم ما أرادوا بعد أن دفعوا دماءهم في سبيل تحقيق هذه الغاية قال تعالى:" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
] فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا "..."فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و أتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياصدق الله العظيم.


] ومن أصدق قولا من رب رحيم،  إن هذه المنظمة العظيمة تخلت عن دورها الريادي و البناء في مجابهة الظلم و الإستعمار و أصبحت مخترقة من النظام تهنئه في أعياده ببيانات المساندة و المحاباة و التملق بقيادات مسقطة بقي هذا الحال لستة عقود إلى أن أعلن الشعب إسقاط النظام وبزغ نجم الثورة في الأفق وبعد أن تيقنت أن الشعب ماض في طريقة إلى آخره إنضمت لحراكه وتوجت تضحياته في رمقها الأخير فسقط الظلم عن أبناء شعبنا.


] غيرأن هذه الثورة سقطت سقوطا كبيرا وحادت عن مسارها حيادا كبيرا كان الإتحاد سببا كبيرا في ضلالها ولسائل أن يسأل لماذا تتهم هذه المنظمة و أنت تعدد مآثرها؟و لماذا هذا التحامل الكبير عليها؟


] إن كرهي ليس منبعه شخصي ولو كان لشخص لذكرت إسمه و إنتهى الآمر لكن كرهي لسياسة خاطئة و لتوجه خاطئ وفهم خاطئ لأني أعي جيدا وزن هذه المنظمة في حياة التونسي و تاريخها المشع في ذاكرته قبل أن تلوثه بممارساتها اللامسؤولة فبربكم كيف لمنظمة تواجه أعتى أنواع الإستعمار بثبات وتضحية ثم تأتي بعد ذلك وتعطل عمليات البناء بشروط مشطة و إضرابات عشوائية تقصم ظهر أعتى إقتصاديات العالم و هل سمعتم بمنظمة نقابية تركع الدولة وتعجزها وتفرض عليها شروط بزيادات واسعة في كل القطاعات العامة و إمتيازات لا قبل للدولة بها و إن لم توافق ألحقتها بإضراب عمالي يجعل من خسائر الدولة مضاعفة؟ هذه جريمة في حق شعب قام  بثورة.


] ثم أنظروا إلى عمال القطاع الخاص كيف عجزت هذه المنظمة عن إفتكاك القدر الأدنى من حقوقهم يعاني عمال هذا القطاع من أجور زهيدة لا تحمي عائلاتهم من الفقر و الفاقة ولا تضمن لهم أدنى مقومات الحياة  مع غياب التأمينات فكم من عامل تعرض لحادث في عمله فوقع التخلي عن خدماته بدعوى أنه غير مرسم و أن قوانين الشركة لا تلزمها بدفع التعويض،إضافة إلى الإستغلال المشط و التسلط من الأعراف وهضم الحقوق و إمتصاص العروق يصبح العامل مضطرا للتحمل مسلوب الإرادة على أن يبقى عالة على غيره دون أن ننسى من لديهم شهادات جامعية و مع ذلك قبلوا بضروف عمل كارثية نظرا لمشاكل التشغيل التي لا يملكون فيها لا ناقة ولا جمل.


] فهذه منظمة قوية أمام الدولة جبانة أمام القطاع الخاص  لأن قياداتها يملكون شركات و شاحنات و عقارات إن قيامهم بإضراب سيجعلهم هم الأخرون مطالبون بدفع مستحقات عمال يعملون لديهم  و ستكون فضيحة و ستفتح الملفات و تتهافت القضايا عليهم من إثراء غير مشروع و إستغلال لنفوذ عندها لن يخرجوا من السجون إلى قيام عيسى أذكر في العام المنصرم توفي قيادي من قيادات الإتحاد يدعى "بوعلي لمباركي" هذا الرجل يقع تداول الأخبار بأنه حدثت مناسبة في داره إما إحراز أحد أبنائه لشهادة الباكالوريا أو ختان أحد أحفاده المهم أن الإحتفالات كرنفالية ذبحت خلالها ما يفوق السبعين من رؤوس الماعز أو الخرفان.


] إن هذا التشدق و هذه الشياكة أولى أن يحاسبوا عليها و أن تضبط أجورهم للعلن و أن يقع إسترداد الأموال و العقارات في خزينة أموال الشعب لأنه لا يعقل أن يفوضك الناس للدفاع عن حقوقهم فتخصم جزء من جرايتهم لهذه النقابة و تأتي القيادات وتستغل هذه الأموال في إقتناء سيارات فاخرة لقياداتها و أجور خيالية لهم و إمتيازات قانونية و جبائية وحصانة تجعلهم فوق المحاسبة و المساءلة بدعوى أنها "الإتحاد" أكبر قوة في البلاد و هذا الخطاب الترهيبي و التخفي تحت خطابات حشاد الذي نسبوه لأنفسهم مع أنه إبن هذا الشعب و إبن هذه البلاد .


] إمتدت أياديهم إلى كل القطاعات فمكنوا لأنفسهم ولأبنائهم في كل المجالات في الصحة و التعليم و النقل و المالية و الفلاحة....فكل إدارة تدخلها لإستخراج و ثيقة يقولون لك هذا إبن فلان أبوه رئيس فرع المنظمة الشغيلة إن هذا التمكين وربط المؤسسات بعلاقات عائلية ومصاهرة يذكرني بتعيين الحجاج لولاته فعندما تولى عمر بن عبد العزيز خلافة المسلمين وجد أن المناصب الكبيرة إمتدت إليها أيادي الحجاج و عقد فيها شبكات علاقات قائمة على المصالح و التجارة والمصاهرة فكان كل وظيفة يجد فيها من تربطه بآلحجاج صلة قرابة يعزله ويقول "حجاج آخر ".


] و إن كانت إنجازات الحجاج وفتوحاته و إصلاحاته الجمة  وورعه وتقواه وحنكته في السياسة  لولا هذه الأخطاء و أخطاء أخرى لا يسعنا المقام لذكرها لكان أعجوبة زمانه فآلرجل قطع شوطا كبيرا في فتوحات الإسلام و ساهم في بناء الدولة الأموية أقوى الدول على إمتداد التاريخ الإسلامي.


] وحث الناس على الجهاد في سبيل رفع راية الإسلام فكم تحتاج بلادنا من حجاج مستنير يجمع الناس في راية دولة واحدة يهابها الجميع حازمة مع الجميع لا تقبل الخنوع و الإستكانة وتدفع الظلم بآلعدل لا دولة تحكمها المافيات ورجال الأعمال يمرغون أنفها في التراب ينتهكون قراراتها جهارا ولا يقيمون لها وزنا ولا هيبة بل لهم قوانين ودولة تخصهم ولعل من مميزات هذه الدولة إستعباد العمال وهضم حقوقهم بجرايات متدنية يندى لها الجبين كأن العامل ألة لديهم  بمجرد إصابته بعطب يتم شطبه و التخلي عن خدماته، دون مراعاة لعائلتة ولا لحالته الإجتماعية هكذا هو حال البلاد و الدولة معزولة لا أذن سمعت ولا عين رأت.


] لكن أنات الفقراء وتضرعهم وطلبهم للغوث لا يخفى على الله الذي عنده تلتقي الخصوم يقتص من هذا ويعطي لذاك فله الحمد بأن جعل الأيام مداولة بين الناس يعيش المرء يومه ولا يعلم ما سيصيبه من نعمة أو يقترفه من نقمة في غدوه وممساه. فهو مع هذا كله يكمل حياته بنسقها الطبيعي و نظامها الدؤوب.


إن ما أخشاه على هذه البلاد  إنتشار المحاباة بشكل رهيب و ليست بمعناها المألوف من تملق الأشخاص بغية تحقيق مآرب دنيوية زائلة بزوال أصحابها بل إتخذت شكلا من أشكال تقديس البشر وتأليههم ،إنها هالة المنصب وما تضفيه على صاحبه من ضخامة و فخامة وهمية لأنها ليست من صنعه إفتتن بها الناس و إنجروا وراء طمع كاذب مدفوع بآلمصالح أبعد ما يكون عن عزة النفس و المروءة.  وهنا نذكر أن خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد " سيف الله المسلولومن يملك جسارة خالد الذي قال فيه أبو بكر الصديق" عجزت  النساء أن تلدنا مثل خالد" وقال فيه أيضا "لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد " وهو مع ذلك مغوار وجسور يملك يقظة القط ووثوب النمر لم يهزم في معركة خاضها قط لكن عزله أبى حفص ولما ناقشه الصحابة في هذا القرار أجابهم جوابا أفحمهم قال بأنه لاحظ إفتتان الناس بإبن الوليد وتعالت الأصوات تمجده و أضحوا يرددون لا أحد يقوم مقام خالد فخشي على الأمة أن تعلق أمجادها بشخص واحد فماذا عساها تفعل عندما يموت ؟وقد مات قبله رسول الله وهو خير الناس فجنبه هذه الفتنة وجنب الناس الوقوع فيها فجعله قائدا لجيش أميره أبى عبيدة بن الجراح فخالد رجل حرب و إدارة الحرب تختلف على سياسة الإمارة فالأولى تحتاج إلى قائد محنك وذكي ليضع الخطط ويحشد الجيش ويقاتل و الثانية تحتاج إلى أمير رحيم يسوس الناس بآلرفق ولا يحملهم على أشياء لايطيقونها و إن كان هو يطيقها إذ فيهم الضعيف والمعدم و الفقير.  وقد وجد عمر ضالته فأمكنته بصيرته من إستخدام كلا الرجلين في المكان الصحيح فجعل من إندفاع الأول وبطشه وصلابته تعتدل بلين الثاني ورحمته ورفقه .
فإختار لكل منصب مايستحقه من الرجال، لكأني بآلبصيرة النافذة حملها هذا الفاروق الذي فرق به الله بين الحق و الباطل فآستوى ظاهره و باطنه كظاهر الكف و باطنه إنه عملاق الإسلام يخضع كل أمر لميزان العدل فلا يخيب سعيه فملأ الدنيا عدلا ورحمة .


وجعل الأمة تحن إلى أيام حكمه و تحلم بعمر آخر و إن كان حلما بعيد المنال فرجل كعمر يآتي مرة واحدة ولا يتكرر لكنه ترك إرثا في العدل و الحلم و الرحمة ونهجا في السياسة قابل للإستلهام تستطيع كل الدنيا أن تسير على منهجه.
إن أرادت ذلك لكن هيهات هيهات فقد إنتهج الغرب منهجه و ساروا بنظامه أما نحن بقينا نجر أذيال الخيبة مع أنه عمر منا ،فكيف لأمة تنجب مثل عمر وتظل طريقها ؟!!.


إن الأمة يا عمر ظلت طريقها وسفهت أحلامها وجارت على أولادها وهجلت نساءها وهجرت أقلامها وكذبت عقلاءها...
قد إمتلأت الصدور بآلنقمة و أصبح الترويج للفتنة أصبح التبول على القانون جهارا و المتجارة بآلدين بهارا صار التعاون تملقا ومجاملة والطمع سيد الموقف و الجور قانون والإستبداد معيار تقدم وتطور.
إنها حالة من الهزيمة ومن الخنوع لا تنصفنا حتى  اللغة في التعبير عنها عجزت الكلمات أن تفيها حقها وتعبر عنها وعقرت المعاجم أن تمدنا بآلألفاظ المناسبة التي تبدد هذه الحيرة فلا عجب في ذلك فنحن في أمة لا تعترف بفشلها وتعالجه بل ترميه على غيرها وهذه أكبر العقد التي حالت دون نهوضها فكل أمر يتم إخضاعه لنظرية المؤامرة التي ماإنفكت تلوكها الألسن ويرد كل فشل إليها فآلغرب حقق تقدم كبير في كل المجالات وقريبا سيتم التخلي عن النفط و البترول لأنهم وجدوا طاقات بديلة وغير مكلفة عندها لن يستحقوا لبعض المواد الأولية الخام من العرب لأنه ولى عليها الزمان ومضى عندها لن ينفعكم التسول بل سيقع غزوكم و إجتثاثكم من جديد لأنكم لم تعملوا بأسباب التقدم من بحث وتطوير و تبادل خبرات و إستشراف للمستقبل ولم تعرفوا قيمتكم حقا وتقفون عندها لأنه جل من عرف مقامه وقدره لذلك إن لم تنقذوا أنفسكم من أنفسكم فلن تستيطوا التقدم أبدا وستبقون صفرا على الشمال.


ولعل ما يعانيه أبناء شعبنا من خذلان وخيبات أمل كبيرة تحتاج قرارا جريئا في ظاهره هدم ولكن في باطنه إعادة بناء وهيكلة إنه أمل جديد و إعلان بداية جديدة و إن تبدو للبعض مجهولة لكن لا بأس بآلمغامرة بين الحين و الحين فآلمواقف الكبيرة يقتضيها واقع الحال لا تحتاج كثيرا من الإجتهاد بل هي وليدة لحظتها تنساب من القلب و المشاعر وتكون معبرة في آن واحد فآلحق بين و الباطل بين أحيانا يكون صرخات موجعة ولكن لابد منها ليستقيم المسار وينصلح الحال و إلا تعطب المحرك و تأخر التغيير .


فلا تلومن على قرار جريئ و إن كان مفاجئ لأن القرارات الموجعة لابد منها إن كانت ستنهي مرحلة من التراخي و الركود وتمهد للبناء و الحزم وتنهي التزمت و الفوضى وتعيد البوصلة للطريق و المقود للمحرك.
وما يدريك لعل الخير في ماهو قادم قد تفصح عنه الأيام وتبدد حيرتنا وترفع الغشاوة وتزول القتامة. لأن الأزمة إشتدت كثيرا وآن وقت إنفراجها الذي لن يكون دفعة واحدة بل سيستغرق وقتا طويلا أتمنى أن لايكون على حساب الأجيال القادمة و أن ندركه فحسبنا مافاتنا كم بيعت لنا من أحلام و أوهام و أكاذيب فممارسة السياسة بهذه الطريقة عار على أصحابها وعار على مجتمعهم وعار على النخبة و أي نخبة؟ هذه التي تساق كما يساق الإبل إلى مرعاه حتى الفن بأنواعه لم يواكب تطور مجتمعه ولم يعالج مشاكل الشعب بشكل دقيق بل إنساق في مخطط ترويج الرذيلة وتمييع الناس و الهروب بهم عن مشاكلهم اليومية الملحة ليخلق لهم مشاكل مفتعلة أبعد ما تكون عن واقعهم الملموس فغابت المسلسلات التاريخية التي تحكي أمجاد الأمة وتاريخ الشعوب بدعوى أنها مكلفة وولى عليها الزمان ومضى فلم يتطور الوعي وبقي في درجة الصفر و إزداد سوء وفسد الذوق العام فجعلنا إزاء جيل مهزوم منفصم الشخصية و إنحطاط أخلاقي و إجتماعي و سياسي لم تشهد البلاد له من نظير على إمتداد تاريخها فكيف لا و أصبح المسؤول يجلب النفايات من الخارج و أي نفايات؟ نفايات ضارة وسامة ويلقيها على شعبه ويقبض فيها أموالا طائلة في صفقة رخيصة إذ لا تهم حياة شعبه المهم أن تزداد أمواله وثروته ولو كان ذلك على حساب حياة أبناء شعبه أي أخلاق أصبحت تحكمنا؟ إنه زمان عبادة الدينار و الدرهم ولا ولاء إلا للجيب مات الحس الإنساني كل شيء أصبح مزادا للعلن حتى القيم وقع بيعها بسوم بخس  فمن يشتري القمح المسرطن ليأكله الناس في صفقة خسيسة أبعد ماتكون عن الشروط الصحية وعن المواصفات القانونية وعن مكارم الأخلاق لينقل للناس الموت الزؤام إنها تجارة بأرواح الناس فليس هناك قوانين في الدنيا كلها تقرها ولا في الشرائع الإنسانية ولا في الأديان السماوية ولا في عقائد التوحيد حتى في الأنظمة الإستبدادية لم تصل طرق التعذيب لديها لهذه الممارسات الشنيعة وهذه الخسة لكن لا غرابة في ذلك هذا ما جنيناه من الرأسمالية و الإقتصاد الحر والرأس المال الخاص ألفاظ مسمومة و متعفنة فإقتحام حياة الناس بهذه الطريقة و إباحة كل شيء بمنطق السوق و الربح يقطع مع كل شعور إنساني.


لقد كانت الرومنطقية محقة في نظرتها للحياة بتلك الشاكلة وسخطها على واقع المادة و العقل لم يكن من عدم لأنها وجدت إنسانية مشيئة ومسلعنة ومدمرة فثارت على العقل وعالم المادةوجعلت من المشاعر و الأحاسيس تستعيد مكانتها فلجأت إلى الطبيعة وحياة الغاب لأنها حياة خالية من البشر و الأحقاد و العقل و حساباته الضيقةإنها طبيعة الإنسان الخيرة قبل أن تلوثها حياة المدينة ودخان المصانع وحس القنابل و رصاص الحروب لقد شهدوا على حروب ضارية دمرت الإنسانية وشردت الناس وهذا الحس الإنساني عبروا عنه بكل مافي اللغة من عنف وبكل مافي الذات من صدق المشاعر ورهافة الحس فإصطدموا بآلواقع ورفضهم رفضا قويا بقوة ثورتهم فكانت صرخاتهم زلزالا على الرأسمالية و أتباعها لكن سرعان ما إتهموها بآلمثالية المطلقة ولم يصمد هذا التيار كثيرا و أفل نجمه بمجرد موت أصحابه فكم نحتاج فعلا للرومنطيقية اليوم وللرومنطيقيين العرب على غرار أبو القاسم الشابي شاعر الحرية و الحياة وجبران خليل جبران بمطولاته الشعرية ونثرياته الرائعة وميخائيل نعيمة مدستر الرومنطيقية وغيرهم ...


أما آن لهذا الأدب أن يعود؟ أو ألسنا بحاجة إلى رومنطيقية أخرى و العالم يشهد مثل هذه الزلازل و الأوبئة؟
أجزم بأن هذه الألام لا تستوعبها و لا تحسن تصويرها و التعبير عنها سوى الرومنطيقية فهي أجرء تجربة صورت معاناة الذات وهمومها و أحزانها وجعلت منها مركز الوجود و أجرء تجربة فضحت الواقع و أعادت الحس الإنساني للبشر بعد أن مزقتهم الحروب.
 

/ فيصل حامد (كاتب تونسي).




Post a Comment

Previous Post Next Post