نهاية - هديل ديب

 




في ظهيرة أحد تلك الأيام القليلة التي يغلبني فيها النوم فاستيقظ متأخرة وأجد نفسي عاجزة عن اختيار ما الذي سأعده اليوم لوجبة الغذاء، هرعت نحو هاتفي التقطته ثم توجهت كعادتي مسرعة نحو "اليوتيوب" ودخلت لقناة "أبو جوليا" لعلّي أجد ضالتي بين وصفاته الشهية، اخترت أحد الفيديوهات التي يقوم فيها بإعداد طبق من الدجاج المُحمر والخضروات والذي يبدو مغرياً للغاية، لم أنتبه لتاريخ الفيديو فلم أعرف إذا ما كانت وصفة جديدة أم قديمة له، يكفي أنها لفتت انتباه غددي اللعابية وحفزت معدتي، فقمت بالنقر عليه وبدأت بالمشاهدة وحفظ الخطوات، وحينما انتهى من اعداد الطبق وبدأ طقوسه المعتادة في استفزاز جوعك بمهارة وهو ما اشتهر به فعلياً، توقفت للحظة "رغم استمرار مرور ذاك الخط الأحمر أسفل الفيديو أي أنه لم ينتهي بعد" لكن عقلي توقف عن التركيز في تلك اللحظة تحديداً، عندما صاح بجملته الشهيرة "تعالي دوقي يا مرَتي" وشردت بعيداً فيها رغم أنني قد سمعتها عشرات المرات من قبل أثناء متابعتي له، لكنها بدت مختلفة هذه المرة بالنسبة لي، في تلك اللحظة شعرت حقاً بالأسى من أجلهما، من أجل زوجين مُحبين عهدناهما، أسف حقيقي اجتاحني من أجل هذا الشيف الذي لا أعرفه شخصياً ولا يعنيني أو يعني أي أحد فينا سبب انفصاله عن زوجته، فهو أمر لا يخص أي أحد في الواقع سواهما، لكن استوقفتني صدقاً "حقيقة" أن حتى هؤلاء الأشخاص الذين شكّلوا جزءً كبيراً من تاريخنا وحفروا لأنفسهم مكاناً مهماً في حياتنا هم في الواقع قابلون للزوال، كحال كل شيء في هذه الدنيا الفانية الهزلية، أياً كان السبب، سواء زوال باختيارنا الشخصي أو باختيار القدر بأن يحرمنا وجودهم فوق هذه الأرض وتحت هذه السماء، ولكن في حالة الانفصال الاختياري عن شخص كان يعني لك الكثير في الحياة، يقاسمك الضحكات، والمسرّات، والأوقات الصعبة، والعثرات، شخصاً كان شاهداً على أحلك لحظاتك ظلاماً، وأكثرها هشاشة وضعفاً، وأيضاً على أقوى لحظاتك وأكثرها نجاحاً، شخصاً هو في الحقيقة شئت أم أبيت سيظل جزءً لا يتجزأ من تاريخك وهويتك وذكرياتك، ومهما فعلت لن يكون بإمكانك العودة إلى الوراء والضغط على زر "حذف" فتمحو أنه وُجد يوماً فيها، في هذا النوع تحديداً من الانفصال أو الرحيل الاختياري ، يعُز علي الإنسان،

الإنسان بذاته أياً كان اسمه ولقبه وشهرته ومكانه، سواء كان شيف مشهور أم رجلاً عادياً يقطن في نهاية الشارع يعمل محاسباً في شركة أدوية، تعُز علي تلك الخسارة المدوية الموجعة التي أُرغم هذا الإنسان على أن يختبرها، واجد نفسي فوراً أتذكر ذاك الاقتباس الذي يعود للدكتور أحمد خالد توفيق عندما وصف الطلاق قائلاً:

"أنه شيء عجيب، أن يمتزج اثنان تمامًا ويصير اسمهما (نحن). هذا بيتنا.. هذه ثلاجتنا.. هذا مطبخنا.. هذا مستقبلنا.. ثم فجأة يتفكك كل شيء.. هما غريبان.. لِكُلٍّ ثلاجته وبيته ومطبخه ومستقبله. يحاول كُلٍّ منهما أن يمحو الذكريات المشتركة من ذهنه كأنها لم تكن."

لكن في نهاية الأمر نحن البشر لسنا سوى حصيلة تجاربنا وذكرياتنا الحلوة والمرة مجتمعة، فكلها جميعاً دون استثناء متحدةً هي ما تصنعنا وتقّوي عودنا وتجعلنا ما نحن عليه اليوم، وما كنا لنكون نحن لولاها، واللبيب فينا في نهاية المطاف هو من يدرك هذه الحقيقة مُبكراً ويعلم كيف يُرمم نفسه ويجمع شتاته فيعود أقوى وأكثر حكمة ونضجاً من ذي قبل، يعلم كيف يستثمر هذه الذكريات والتجارب في صالحه الإنساني والمعرفي فيمضي بهذه الحصيلة كوسام شرف يحمله على صدره لبقية حياته، وكأنها رُتبة عسكرية يُثبت بها أن هذا الشخص قد مر بالكثير من المعارك التي رمته أرضاً وكادت أن تقضي عليه نفسياً، لكنه كان دائماً باستطاعته أن ينهض مجدداً وينجوا!.




Post a Comment

Previous Post Next Post