يا ليتني كنت تراباً - حلا حطبي

 



كان ذلك البحر محطّ استحقاري على مدار أعوامي الخالية ..

كنتُ أهابه على الدوام و أخشى مدّ نظري إلى آفاقِ اتساعه لِعلميَ التام بأن قدراتي لن تخوّلني السير عكس تياره إنْ أنا جازفتُ بروحي بين أمواجه دامسةِ الظلمة ..

كنتُ متيقّناً أن نتنةَ استنقاعه ستبتلعني لا مفرّ ولا مهرب إنْ خاضَ خلالها جسدي ..

و بينما أنا على هذا الحال ، أترجّلُ أمام البحر و أُقبّحُ كل متهور يمرّ أمام عيني و ينغمس في ماءه ؛ انتصب إلى جانبي رجلٌ لا أعرف له اسماً و لم أجد تقاسيمَ وجهِه في ذاكرتي ..

بدأ الرجل بمديحٍ مطوَّل لذاك البحر الذي لم يفتأ حتى صار منوِّراً ذو بريق التهمه ناظري إعجاباً على الفور بعدما زيّن لي الرجل آفاقه ..

 انتشَت أذناي بصوت هديرِ المياه و تلاطم الأمواج فلم يعد يصل إلى مسمعي غيرهما ..

و بخطىً مهزوزةٍ أولاً ، مصممةٍ واثقةٍ ثانياً ؛ اجتزتُ طريقاً خُيّل إلي أنه كان متعرجاً غير سَويّ..

ما إن لامسَت خطواتي قطراتِ عتبةِ البحرِ اتّقدَ الحماسُ في صدري لاجتياز الخطى المقبلة ..

و مع ارتفاع منسوب الماء حتى وسطي رددتُ نظري إلى الخلف فلاحَ الشاطئُ لي و لا يزال قريباً ، حينها أيقن عقلي أن الإيابَ يسيرٌ حين أقرّره ..

خامرني شعور بالملل من الحركة الرتيبة ؛ فاشتهيتُ أن أهوي برأسي إلى الأعماق كما يختفي من حولي تحت خط المياه ..

في البدايةِ ادعيتُ أني سألقي نظرةً ثم أعود لانتشل هواءً يبقيني مُقَلّاً على خطِ سير الحياة ، ثم استحالَ تردّدي المسبق إلى ثقةٍ تجاهرُ بقدرتي على التنفس حتى ولو كانت المياه تأزرني من كل جانب ..

بات الوصول إلى عمقِ لُجّته هدفاً لي بعد أنْ اجتاز صوتُ طبول و غناء و زمر أذنيّ ؛ فخُيّلَ إليّ أنّ منبع ذلك الصوت أتى من الأسفل و حطَّ رحلَه في الوسطِ الذي يصل إلى مسمعي ..

مضيتُ أشقُّ طريقي مع التيار هبوطاً.. و في لحظةٍ أعربَت رئتاي عن رغبةٍ في الامتلاء هواءً .. كنت بين خيارين ؛ أن أعود لأُطلَّ برأسي من السطح ، أو أكمل في السير نحو فضولٍ مبهمٍ تمثَّل في العمقِ السحيق ..

حينها رأيتُ سراباً مثّلَ لي أرضَ البحرِ جناناً تسكنها حورٌ عين خيّلَ إليّ أني رأيت لهم خيالاتٍ ذواتِ هيَف ، فصار حلمي أن تطأها قدماي ..

و بتصميمٍ تجاهلتُ صراخَ صدري و أسكتُّ استنجاد الرئتين و قد بات عقيماً أمام ذاك السراب الذي يضمرُ خلف تلثّمِه أهوالاً عميَت عينُ عقلي عنها ..

ولا أزال أجدُّ نحو الضياع انحداراً فانحدار حتى حطَّت قدماي على سطحٍ ..

يارباه .. أوَصلتُ إلى الأرض التي تقطنها قاصرات الطرف؟

أم إلى القاعةِ تلك التي تُصدر صوت التزمير و قرع الطبول؟

أوَأُغشيَت عيناي حتى بتُّ لا أرى إلا السواد يصبغُ محيطي؟

و بينما أنا متسائلٌ أضربُ أخماساً بأسداس ؛ سادني و بلا سابقِ إنذار شعورٌ بخَور القوى .. حاولتُ جاهداً أن أنهضَ من تهالكي على الأرض فإذا بساقيّ تحولتا إلى كتل صمّاء من الرصاص تأبى الاستجابة لأوامر الحركة ..

و بينما أنا على هذا الحال إذا بيدٍ لا أرى كياناً لجسدِ صاحبها تجذبني بقوةٍ حسبتُ معها أنّ ذراعي اقتُلِعَت من تأصُّلها ..

ها هو أمامي طابورٌ لا أول له ولا آخر لبشرٍ زُرق الوجوه و الأجساد ، يحسبُهم الناظرُ جثثاً منزوعة الأرواح ..

وُضعتُ في اصطفافهم مُرغَماً ؛ و فيما أنا واقف بينهم لا حول لي ولا قوة أراجعُ ما سُجِّلَ في ردهات ذاكرتي و أقبيتها فلم أجد إلا فتاتاً مسحوقاً أطلعَني على انجراري الأعمى خلف ما كنتُ أتفاداه أبداً من المُغريات و الأهواء و الفتن ، ما عدتُ أدري كيف أشعر بالهلع دون امتلاكِ قلب بين أضلعي .. أو حتى كيف أذرفُ أدمُعاً و أنا المجردُ من الشعورِ و الضمير ..

و فجأةً رأيتُ عن بُعد ملامحاً أخذَتني على الفور إلى تلك اللحظة التي كنت أتفرّس فيها بوجه ذاك الرجل الذي عزّزَ اهتزاز خَطوِي على درب الوصول إلى البحر القاتمِ..

رفعتُ يدي مستصرخاً علّه يلتفت بنظره إلى ضعفي و حاجتي الماسَّة لمساعدة للخروج .. فإذا به يرسم ابتسامةَ خبثٍ و شماتة على ثغره ثم استدار عني من جديد..

و فجأةً أطبقَ الصمتُ المكانَ و لفَّ حناجرَ المتواجدين ؛ فلم يعد اللغط ولا التأوه مسموعاً إلينا..

و انبثق صوتٌ مهيبٌ كان مطلع قوله أن بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ : 

{وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا*}

نعم.. أنا اليوم مَرميٌّ في صفوف الظالمين تائهي الوجدان بسبب موسوسٍ زيّن لي شهواتي فأرداني صريع القلب أبكم الضمير هاوي المذهب من بعد أن كنت أسعى طيباً على برّ الأمان..

اليوم و قد فاتَ الأوان يلهجُ لسان حالي و يقول..{يَا لَيتَنِي كُنتُ تُرَابَاً}.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم