حلم اليوم الأخير - عادل عبد القادر عوض

 



 

كان عبدالبديع، قصير القامة ،كثير النظر في المرآة، كثير التأمل في ملامح وجهه الدميم الذي شعر بدمامته منذ بدأ إدراكه للحياة ومع مرور الوقت أصبح يسأل وجهه في كل مرآة يقف أمامها أي جمال في هذا الوجه ليطلقوا عليه عبد البديع ،ورغم ذلك لم يتخل أبدا عن تأمل نفسه في أي مرآة يصادفها في طريق حياته في المنزل أو الشارع أو المدرسة أو حتى محل البقالة - حتى أن أهل الحارة أطلقوا عليه عبدالبديع العايق - فاشتهر بهذا الاسم من صغره ونما مع هذا الوسم الذي استهواه وتعلق به حبه لذاته وذاد منه تفضيل والده وتمييزه له عن باقي إخوته رغم أنه بمقياس التفوق الدراسي كان أدناهم في المستوى وأقلهم في الذكاء والقبول  .

عاش عبدالبديع حياته هكذا بين متناقضين بين إحساس بالدونية كرستها دمامة وجهه وضعف مستواه التعليمي وبين إحساس بالتميز عن باقي إخوته كرسه وأكد عليه معاملة والده وتعاطف أهل الحارة معه منذ أن كان طفلا حيث كانو يعاملونه على أنه يحتاج إلى معاملة خاصة حتى لا يشعر أنه منبوذ بسبب دمامة وجهه ، وكما غلب على عبدالبديع إحساسه بالتميز - حيث كان يلبس أعلى ماركات الملابس والساعات كما كان يضع أغلى أنواع العطور حتى أن مظهره وذوقه في الملابس والعطور النفاذة كان يغلب على النفور من دمامة وجهه – غلب عليه أيضا عدم إحساسه بمن حوله فلم يكن يرى إلا نفسه واحتياجاته أيا كان الضرر الذي يقع على الأخرين كما تميز بصوته العالي الذي اعتقد منذ صغره أنه وسيلة جيدة لإسكات أقرانه سواء أكان على حق أم على باطل .

لم يستسلم الخيال كبير تجار الحارة – كان هذا اسم والده – لحال ابنه في التعليم وبعد أن أنهى المرحلة التوجيهية بمجموع لا يذهب به إلى أي كلية أو معهد عالي قرر له أن يكون متميزا للنهاية ولأنه يسير الحال وأغنى من في الحارة ، فقد هداه تفكيره إلى أن يتعلم ابنه الطيران فسافر عبدالبديع إلى إحدى الدول الأوربية ليدرس قيادة الطائرات.

عاد عبد البديع بعد ثماني سنوات قضاها في أوربا حاملا شهادته على صدره متفاخرا بها ليجد والده -الذي توسعت تجارته خلال هذه السنوات الثماني إلى حد يفوق الخيال - قد تمكن منه المرض وأصبح طريح الفراش لا يخرج من باب البيت مطلقا إلا للذهاب للطبيب أو للإقامة في المستشفى لتلقي العلاج وقد أصبح وحيدا لا يزوره أحد حتى أولاده بعد أن علموا أنه باع غالبية ما يملك لأخيهم عبدالبديع ولم يترك لهم إلا القليل بحجة أنه أقلهم حظا في الحياة منهم وأنه أشقاهم بوجهه الدميم .

لم يعش الخيال طويلا بعد عودة عبدالبديع من سنوات السفر الثمانية التي لم ير أبيه أو إخوته يوما خلالها بحجة أن الإجازات  كان يقضيها في التدريب على قيادة الطائرات،  وبعد وفاة والده أكتشف أنه من أصحاب الملايين حيث لم تكن أملاك والده تقتصر على محال وتجارة الحارة ولكنه كان يمتلك الكثير والكثير خارجها وفي أماكن فارهه وبجانب المحال التجارية كان أيضا يمتلك مصنعا للملابس الجاهزة وأخر للمواد الغذائية ، وكانت كل تلك الأملاك من نصيب عبد البديع في حين كان نصيب إخوته رصيد بالبنوك وبعض الابراج السكنية التي كان كل واحد منهم يسكن فيها.

كما لم يكن عبدالبديع نابها في التعليم مثل إخوته فإنه أيضا لم يرث عن أبيه مهاراته في التجارة أو الصناعة ،لذلك لم يعرف منذ البداية كيفية إدارة كل هذه الثروة التي هبطت عليه دون سعي أو جهد بل أنه لم يفكر أو يشغل باله بكيفية تنميتها أو إدارتها ،وظل الاستغراب والاندهاش محيطا به لفترة ليست بالقصيرة كانت هي الفترة الوحيدة التي تعامل فيها برفق على غير عادته مع كل المحيطين به حتى أولئك الذين كان يكن لهم حقد دفين منذ نعومة أظافره.

مع الوقت اعتاد عبدالبديع على حياته الجديدة كونه يملك أموالا طائلة ومحال ومصنعين كبيرين وأراضي كثيرة ،زراعية وعقارية ،وعنده عمالة كثيرة يمضي شيكات شهرية ليدفع لهم رواتبهم وتأميناتهم وعلاجهم ،ولكن حياته هذه كمسئول عن ثروة مطالب بالحفاظ عليها وأفواه مطالب بالحفاظ على أرزاقها ،كانت تضجره أشد الضجر وتؤرق نومه أشد التأريق ،فلا هو رجل أعمال صاحب فكر في تنمية ما يملك ولا هو اعتاد على تحمل مسئولية ،وليس لديه أي خبره في إدارة أي شيء.

رغم إدراك عبدالبديع أن هذا العمل ليس عمله وأنه لا يملك المهارات الكافية لإدارته أو تنميته إلا أن كبريائه وخوفه من نظرة إخوته إليه في حال فشله منعه من الاستعانة بمن يدير له كل هذا الميراث وكان يصر على التدخل في كل صغيرة وكبيرة تخص أي جزء من ميراثه حتى أنه كان يتدخل في نوع الزراعات ومواسم زراعتها والسماد الملائم لها ولم يكن يقبل برأي أي من العاملين معه فكان يتمسك برأيه إلى أبعد الحدود حتى أنفض عنه أصحاب الخبرة ممن كان يستعين بهم والده -الخيال- ونظرا لتعنته الغير محدود فقد أصبح كل من حوله يوافقون فورا على أي قرار يتخذه حتى لو كان خاطئا وضد مصلحة العمل حتى لا يفقدون وظائفهم ورواتبهم ، وهكذا تدخل في كل شيء حتى أصبح الوحيد الذي يتخذ القرار في كل شيء ،ومتباهيا دائما بأنه يحمل كل هموم العمل وإدارة الثروة دون مساعدة لأن كل من حوله لا يدركون ما يدرك ولا يعرفون ما يعرف ولا يرون المستقبل كما يرى.

لم يمر وقت طويل على طريقة عبدالبديع في إدارة عمله بهذه الطريقة حتى بدأ جميع عماله يفقدون الاحساس بالأمان وصاحب ذلك إهمال وأخطاء في العمل بقصد وبغير قصد ،كما كثرت السرقات ،وأصبح عبدالبديع لا يعرف أسباب الخسائر الكبيرة التي يصاب بها من وقت لأخر حتى فقد معظم ثروته في خلال ثلاث سنوات من موت والده -الخيال-،ما اضطره لبيع كل ممتلكاته لسداد الديون التي تراكمت عليه في أقل سنتين.

لم يُصب عبد البديع في حياته بهزيمة كتلك التي أصيب بها في هذا الوقت الضيق وخسر خلاله كل تلك الثروة ،لكنه كعادته -أو كما عوده المحيطون به منذ صغره - لم يكن يكترث بالهزائم أو يهتز لها ،فكان هناك دائما من ينتشله منها ويبررها له ويفتح له طرقا جديدة لينجو بها ، وهو ما كان سببا دائما للخلاف بين إخوته وأبيهم ،فكانوا يدركون أن هذا التدليل سيفسد حياته في حين كان والدهم يراهم حاسدين له ،حاقدين عليه ،وهو ما نما بداخل عبدالبديع مع الزمن فلم يعد يرى في الكون غير نفسه ومطامعه التي كان يظن دائما إنها حقوقه التي يعوضه الله بها عن دمامة وجهه وتعثره الدائم في التعليم.

ظل عبد البديع لشهور يُنكر مسئوليته عن خسارة ثروته ومحملاً أسبابها إلى موظفيه الفاشلين -كما كان يصفهم دائما- وكان في كل أحاديثه مع معارفه يؤكد لهم قدرته على استعادة ثروته وأنه يرتب أموره فحسب ليعود من جديد ،وكان عبد البديع قد فكر بالفعل في البدء من جديد وهداه تفكيره إلى أن يشاركه إخوته بميراثهم من أبيهم في مشروع جديد وكان قد بدأ في الإلحاح عليهم واحداً واحداً، غير أنهم رفضوا مرارا وتكرارا عروضه كلها سواء بالاستدانة منهم أو مشاركته في الإدارة ورأس المال ، متحججين دائما بأنهم ليسوا أهل تجارة كما أنه ليس أهلا للثقة.

في وقت قصير جداً كان كل معارف عبدالبديع قد أنفضو من حوله ولأول مرة في حياته يشعر بتلك العزلة والوحدة ،وكان قد طرق كل الأبواب للبدء من جديد دون جدوى ، فتوارى عن الأعين حتى أن إخوته – الستة -الذي لم يكن لأي منهم نصيب في الزواج أو تكوين أسرة - لم يروه أو يسمعوا عنه شيئا ولم يسعفهم البحث عنه أو السؤال عن مكانه في معرفة أي شيء عنه لشهور طويلة حتى ظنوا أنه سافر إلى أوروبا من جديد فتوقفوا عن البحث عنه ، وبعد أقل من عام ظهر عبدالبديع مجددا للحياة في قمة أناقته القديمة بملابسه القيمة وعطوره الغالية النفاذة ، واجتمع مع إخوته في بيت أبيهم القديم في الحارة وأخبرهم أنه كان يمتلك أرضا في صحراء أقصى جنوب البلاد وقد سافر إليها بعد مأزقه المالي وتمكن من زراعتها بمساعدة بعض من أصدقائه القدامى ، ووعدهم بأنه سيستعيد ثروة أبيه من جديد وأنه في حاجة إليهم للحفاظ على اسم أبيهم دون أن يدفعوا شيئا أو يشاركوا في شيء ،فقط يحتاجهم لمساعدة أخيهم الذي غيرته الحياة التي تغير كل شيء.

كان حديث عبد البديع عن الأب وميراثه والأُخوة والعائلة مختلفا وبديعا ، استطاع به أن يقنع إخوته أنه تغير إلى حالة لم يشهدوها منه أو يتوقعوها عنه طوال حياتهم ، فما كان منهم إلا أن عبروا له عن دهشتهم وإعجابهم وفرحتهم بهذا التحول المذهل في شخصيته ، فقام بدعوتهم جميعا للسفر إلى أرضه في أقصى جنوب البلاد ليقضوا معا عدة أيام ويشاهدوا بأعينهم نجاحه الجديد .

وفي اليوم التالي مر عليهم عبدالبديع في منزل العائلة كما اتفقوا راكبا سيارة فارهة وفي زيه الأنيق وتفوح منه رائحة العطر النفاذ ليصحبهم في رحلته - التي تشوقوا إلى خوض غمارها منذ عرفوا بها بالأمس واستغرقوا طوال الليل وحتى الصباح في الحديث عنها وتخيل ملامحها - وكما عبروا عن دهشتهم من تغير أخيهم المفاجئ عبروا أيضا عن دهشتهم من التحول الكبير في شخصيته وإحساسهم الجارف بحبه لهم وحبهم له.

وفي اليوم التالي توجه عبدالبديع إلى منزل أبيه القديم ليصحب إخوته راكبا سيارة فارهة لم يسبق أن شاهدها أهل الحارة من قبل ومتعطرا بما لم تلتقطه أنفاسهم طوال حياتهم ،وما أن نزل من السيارة حتى التفوا حوله فقبلهم واحدا واحدا ودعاهم لركوب السيارة ثم أخبرهم أنهم سيستقلون طائرة - قام باستئجارها - من المطار يسافرون بها اختصارا للوقت وقد دفع كل التكاليف ،ثم ساد حديث الذكريات والعائلة والمواقف الطريفة التي واكبت طفولتهم وشبابهم ودراستهم وظل الحديث خفيفا ضاحكا إلى أن استقلوا الطائرة وأقلعت من المطار وبعد أن استراح كل منهم في كرسيه استغرقوا في نوم عميق لم يعرفوا سببا له ،ولم يستيقظوا إلا على صوت طلقتي رصاص كان عبدالبديع قد أطلقهم على رأس قائد الطائرة ،ثم رأوه – وهم في ذهول - واقفا أمام باب الطائرة المائلة لإسفل في وضع السقوط ومرتديا سترة القفز من الطائرة ولم تمر إلا لحظة ألقى عليهم فيها نظره أخيرة ثم قفز من الطائرة تاركا إياهم لقدرهم المحتوم ،وبينما هو في الفضاء تعلوه السماء بزرقتها الصافية وتمتد من تحته الصحراء الشاسعة برمالها البراقة وتحمله مظلته ،كان يشاهد الطائرة وهي تسقط بأقصى سرعة ممكنه لتنفجر بإخوته لحظة ارتطامها بالأرض.

كان عبدالبديع قد هداه تفكيره إلى التخلص من إخوته ليرث ما تركه لهم والده – الخيال - ليبدأ من جديد بعد أن رفضوا مشاركته أو مساعدته بعدما خسر كل ما يملك وانفض عنه من كان يحسبهم أصدقائه عندما كان يملك كل شيء ويدير كل شيء ،فرتب موتهم على هذا النحو ،إلا أنه لم يرتب وسيلة عودته بعد التخلص منهم ،فهبط بمظلته وهو يشاهد حطام الطائرة والدخان المتصاعد من النيران المشتعلة بها والسعادة تغمر قلبه من نجاح خطته وأخذ يتخيل النجاح والمجد الذي سيحيط به بعد استلام ميراثه منهم والبدء من جديد في استعادة ثروته ،وحين ذهبت نشوة الانتصار وانفض عنه الخيال أدرك أنه وحيد في صحراء قاحلة ظل تائها فيها بدون ماء أو طعام ولا يعرف لها طريق للخروج ،حتى أدركه الموت من الرعب الذي أحل به مع حلول  الليل وهو وحيد تعلوه السماء المظلمة ومن تحته الأرض حالكة السواد ،وكان أخر ما تراءى إلى فكره وهو يخرج نَفَسَهُ الأخير أنه أخر نسل والده -الخيال -.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

1 تعليقات

أحدث أقدم