مسرحية قلق؛ نظرة عن كثب لمجتمع يعيش على الانتظار... - ذ. حسن المصلوحي

 



مسرحية "قلق" لفرقة كواليس للثقافة والفن، إخراج عشيق عبد الفتاح.


مشهد الانطلاق:

المكان: قاعة انظار كبيرة لإدارة عمومية

الزمان: الرّاهن

الحالة المخيمة: الانتظار

السيكولوجية المسيطرة: التوتر والقلق والمشاحنات والاحتقان

الشخوص: فسيفساء تشكل تنوع الشرائح المجتمعية.


 تنطلق المسرحية وسط هذا الإطار الذي حددناه سلفا بشاويش مشتت، يخاطب الوافدين والجالسين بفظاظة وغلظة، على أحد الكراسي امرأة بلباس كلاسيكي تبدو عليها معالم الجدية والحزم. شابة خجولة وشاب يحمل قالب سُكّر بين يديه، فتاة لافتة الحضور بين الجمهور، ترتدي لباسا أحمر قصير، امرأة منقبة ومزيج من المشاحنات والتوتر بسبب انتظار شخص ما ليقضي مصالهم التي لم تقضى بعد ساعات من الانتظار. هناك سؤال يدور ولا جواب: "من سرق البيضة؟". تساؤلات مجتمع حول هؤلاء المتكرشين الذين نفخوا ثرواتهم بسرقة بيضة المجتمع، كدِّه وشقائه، وحركات بالذِّراع من الشاويش تفيد أن الذي سرق البيضة هو الذي اغتصب شعبا بأكمله وزرع الخوف فيه ولذلك تردد السؤال طويلا ولا أحد قدم جوابا واضحا أو استطاع أن يفتح فاه بالسارق الحقيقي للبيضة السليبة.

فيونس أقر بأنه يعرف من سرق البيضة لكنه غير قادر على القول، وهو خوف طبيعي عند شعوب ألفت الاكتفاء بقضاء مصالحها الخاصة والابتعاد عن الأجوبة المصيرية التي تهتم بمصلحة الجماعة، ولذلك فهاته الشعوب لا يمكن أن تشير بأصابع الاتهام إلى السارق الحقيقي الذي حمل البيضة في حقيبة وتركهم في قاعة الانتظار يناطح بعضهم بعضا. ونتيجة لهذا الاستلاب الذي يشعر فيه المرء بأنه مجرد حيوان بالنسبة لأصحاب السلطة ورجال رؤوس الأموال المُنعّمين فإن المسرحية قدّمت عبر العرض الباذخ الذي قدمه يونس إشكاليات الشعور بالوحدة وبأن الانسان في هكذا حالة يشعر بأن الآخرين تخلوا عنه لأن الكل أصبح يبحث عن خلاص فردي ولا فكاك له في آخر المطاف. إلى جانب الوحدة ينجلي الخوف من الوقوف عند حقيقة الذات، الشعور القاتل بأن الانسان مغترب عن ذاته وبأن الأشياء تختفي في داخله، تختفي الذات والحرية والكرامة والأمل والطموح والتوق للحياة بل والرغبة في الحياة، ولذلك يقر كتعبير عن الإحباط بأنه سيعيش كلبا وسيبقى ابن كلب، ببساطة لأن جميع المؤشرات التي لديه تؤكد على ذلك. وهنا تأتي الصرخة المدوية للشاويش الذي يصرخ في وجهه "سْكُتْ الكَلْب"، وكأنه يقول له: نعم نحن الدوائر الرسمية نؤكد لك قولك بأنك فعلا كلب وستبقى كذلك ونحن من أردنا أن تكون على هاته الشاكلة.

ويأتي دور الفتاة الخجولة البسيطة في الحديث، تلك الفتاة التي جعلها المجتمع تؤمن بأنها في حاجة لشهادة عزوبة حتى تتزوج من خطيبها حميد الذي ينتظرها بالخارج، والذي لا يعامله المجتمع بنفس المنطق؛ بأن يقدم هو الآخر شهادة العزوبة، أليست الرذيلة صفة إنسانية تطال المرأة والرجل على حد سواء؟ إذن لماذا يكيل هذا المجتمع بمكيالين. بل وتبلغ درجة الوقاحة أن يتم سؤالها أمام الجميع: هل أنت عزباء؟ وكيف نتأكد من ذلك؟ فمن وقاحة الساسة أن يقتحموا حياة الناس الشخصية ويهينوهم إلى أبعد حد. 

تنبري المرأة الصارمة التي سنعرف بأنها حقوقية تنتمي لإحدى الجمعيات الحقوقية، فجاء تدخلها ساخرا ومضحكا، أولا من حيث اسم الجمعية التي تنتمي إليها "قُوقِي قُوقِي بغيت حُقٌوقِي"، وثانيا من حيث الأسلوب الذي تتكلم به، في إشارة واضحة وصريحة للجمعيات التي تتنطع هنا وهناك للدفاع عن قضايا سطحية ولا تشكل أهمية بالنسبة للشعب في حين لا تحرك ساكنا أمام القضايا الحساسة.

على الجانب الآخر من القاعة تتدخل المرأة المنقبة طارحة موضوع الفصل بين الذكور والاناث على اعتبار أن المرأة في حالة الاختلاط تكون عرضة للتحرش، وانطلاقا من هاته الوضعية المشكلة تفتح ال مسرحية موضوع الهوية، بين الطروحات الاسلاموية والتصورات المنفتحة على آفاق أخرى، بين من يرى أننا يجب أن نعود إلى نموذج السلف الصالح وبين من يرى أن الانفتاح على العصر لا يتعارض إطلاقا مع الهوية الإسلامية، وإن كانت المسرحية قد مالت للتهكم و السخرية من طرح الاسلامويين اجمالا و الاديولوجيا التي يمثلونها، وأعجبني جدا تسليط الضوء على فكرة أن الناس ليس جنسا خالصا وأن ما يدور في بالك ليس بالضرورة هو ما يدور في بال الاخرين. 

وفي مشهد تتساقط فيه الرسومات التي رسمها الجمهور لمن سرق البيضة، يخيم جو من الانتظار القاتل حد الملل، الكل ينتظر، يهاجم الشاب الشاويش مشيرا إلى أهمية العلم والمعرفة في المجتمع وأن الخوف هو عدو الناس. ثم تعود الحقوقية في مرافعة بيزنطية مسجلة نقطة نظام تثير السخرية ويعود الحديث عن السارق الذي سرق البيضة ويتعدد المتهمون ولا أحد يجرؤ على اتهام السارق الحقيقي. مرافعات من أجل لاشيء، جمعيات ومنظمات تتكلم كثيرا ولا تقول شيئا.

ولأن السلطة أنفٌ شمام يقتحم أدق تفاصيل الناس فإن الشاويش لن يتورع في سؤال الفتاة الجريئة عن سبب رغبها في السفر إلى قطر وما إذا كان للأمر علاقة بالشبهات، اتهامات مستبطنة لا يرضاها لأمه أو أخته في ابراز لتناقضات الانسان العربي. 

يظهر جليا أن هناك ذئب داخل معترك قاعة الانتظار، ذئب يضرب الناس بالناس ويكتفي هو بالفرجة، ضرب المتحررة بالمحافظة، المعاصرة بالأصولية... من بين شخوص العرض نعيمة، نموذج لشريحة اجتماعية تستخدم كوسيلة انتخابية لتوزيع المال الحرام وكسب الأصوات.

وهنا سيُصَرَّح بأن المقاطعة قد تم نقلها إلى مكان آخر، ليبدأ السؤال عن سبب الانتظار في هذا المكان، هل المسألة تحولت إلى ملهاة يكون فيها الناس مجرد دمى يلعب بها الآخر الذي سرق البيضة. هل حياة الشعوب الكادحة تحولت إلى قاعة انتظار ترحل فيها الحقوق ويستوطن فيها القلق والتوتر والانتظار. وهل الذي نقل المقاطعة هو نفسه من سرق البيضة ورحّلها إلى ما وراء البحار..

وبين هاته المشاحنات التي تصل حد العبث واللامعنى الذي كان مقصودا يتناهى إلى المسامع صوت حالم، سمفونية حالمة بمجتمع سعيد، صوت يستعيض عن واقع حالك بدعوات لمجهول، لعله ذلك الضمير الغائب لمن سرق الأحلام ومن على شاكلته بأن يرسم لنا دارا دافئة، واقعا لا يتحول فيه الناس إلى خراف تتخطفها الذئاب. صوت ونغم حالم بحياة عادلة. بأرض تصبح جنة غنّاء عامرة بالورد والأطفال من المشرق إلى المغرب، سمفونية الحلم المشروع ببلاد عنوانها الأمان. تلك البلاد التي يحلم بها كل المُعنّفين بالانتظار أو بغيره، بلاد لا تقدم أبناءها لقمة سائغة في موائد الأسياد الذين يملكون الشجر والحجر وحتى البشر..

وبعد هذا الحلم الذي يعم الأرجاء يعود العرض لتجسيد مسرحية الالهاء والضحك على الذقون؛ الديموقراطيات الشكلية التي يحرك فيها الساسة من الوراء ولا شيء يتغير، يتعاقب المسؤولون على الكراسي والمناصب والانتظار هو الانتظار، فنكتشف حقيقة أنه ليس في القنافذ أملس وأن عجلة الخيبة تدور وتجيء بانتظار أكثر مرارة وقلق أكثر وقعا. فينتبذ المسؤول خلف الكواليس لكن جلسته تعكس تحكمه في الأمور كلها لتصبح الكواليس هي قلب الحدث ويصبح الحدث نفسه مجرد لعبة في يد الآخر الذي لا ينتمي لهؤلاء الناس الحالمين الطامحين لبناء حياة أفضل. يظهر جليا أن البلاد في عرف هؤلاء لا تعدو أن تكون معسكر عمل لجني المال الحرام وتحقيق ثروة ومجد خاصين.

تصرح إحدى الفتيات اللائي ينتمين للجمهور بأنها ترغب في السعادة، ليعود مشهد "القالب" ليلوح من جديد في إشارة واضحة لما يحصل عليه المواطن المغبون في آخر المطاف، القالب ولا شيء آخر. هذا القالب الذي يُقدم للشعب في لحظات رومنسية يتم فيها تأجيج العواطف واللعب على العقول الصغيرة القاصرة وممارسة الأيديولوجية وقلب الحقائق وتشويه الواقع.

وتتوالى بعد ذلك الحوارات العبثية والعشوائية وتقديم صورة مصغرة للأحاديث المجتمعية التي تطفو على السطح والتي لا تمُت بصلة لقضايا الناس المهمة والمؤثرة. ولتنتهي المسرحية في الأخير بكثير من الانتظار وكثير من القلق. فلا أحد في هؤلاء الناس الذين جاؤوا لقضاء أغراض شخصية تمكن من قضاء غرضه. وليبقى السؤال معلقا: من سرق البيضة؟ ومن نقل المقاطعة وترك الناس ينتظرون؟ من هو هذا الغائب الذي لا يريد أن يحضر؟ من هذا الذي أخرج هاته المسرحية العبثية وظل يشاهد الأحداث من الخارج؟ من هذا الذي جعل الانتظار قانونا يسري على الجميع في هذا المجتمع الكسيح؟


مسرحية قلق، حلقة جديدة من مسلس التجريب الذي يخوضه المخرج الشاب الخلاق عشيق عبد الفتاح، ذلك أن التقنية التي استخدمت في هاته المسرحية في اعتقادي رائدة، بحيث تمكن المُخرج الذي أدّى دور العربي الشاويش من أن يجعل الجمهور في قلب المسرحية، وبالتالي في قلب الجدل الدائر، ليس من حيث شدِّه للأداء، بل لأن الجمهور هو الآخر شارك في مشاهد المسرحية بتقديم تساؤلاته وتوقعاته ورسم خواطره على الأوراق، وأنا كنت واحدا من هؤلاء وهاته تقنية ليست سهلة على الإطلاق، ولكن الفرقة استطاعت بجدارة كبيرة أن تُنجح العرض وتُحوّله من مسرحية تقدمها فرقة كواليس للثقافة و الفن إلى جدل و سجال اجتماعي نشارك فيه جميعنا، وبالتالي لم يعد ممكنا التمييز بين الجمهور والممثلين، وأعتقد أن اختيار هاته التقنية -المسرح التفاعلي- كان دقيقا وموفقا إلى أبعد حد، ذلك أن المخرج تمكن من جعلنا نحن المتفرجين في قلب الوضع السيكولوجي المخيّم، فدفعنا للتساؤل والشك والحنق والغضب وكأننا حقا في قاعة انتظار رتيبة ومقيتة وبأننا يجب أن نساهم نحن أيضا في إيجاد حل لهاته المعضلة وهي الانتظار، فشعرت أنا أيضا بالملل والقلق والتوتر والرغبة في الإجابة عن سؤال: من سرق البيضة؟ 

إن المسرح الذي لا يغير فيك شيئا لا يعتبر مسرحا، العمل الفني الذي يحدث بداخلك وقعا قوية ورجة مُزلزلة لا يمكن اعتباره كذلك، وهذا ما يحدث معي مع كل عرض مسرحي أحضره لفرقة كواليس، أحضر بكل وجداني وأعود بكثير من الأسئلة التي تختمر بداخلي، ولا أدلّ على ذلك من الحاجة الملحة التي أشعر بها بعد كل عرض للكتابة، وهذا كفيل بأن يدفعني لرفع القبعة عليا لهاته الفرقة. تناغم كبير بين أعضائها بشكل يجعلك تفهم سر هذا النجاح المستمر، تمكن كبير من الأداء والعروض واختيار رائع لفضاء العرض الذي كان راقيا وأنيقا (L’INSTANTT) وأداء موسيقي لافت ومميز. 


في الأخير أقول: هنيئا لنا بهاته الفرقة الشابة الخلاقة التي تعتبر في اعتقادي فرقة واعدة تستحق كل الدعم والتشجيع.


__________

هوامش: 

شخوص العرض:

في دور:

- العربي: عشيق عبد الفتاح

- السيدة الحقوقية: أسية البراح

- يونس: زكرياء راتب

- نعيمة: هدى اجبيلي

- صاحبة الخمار: إيمان جلال

- الفتاة الخجولة: زينب مازوز

- الفتاة الجريئة: هدى الناصري



الكاتب حسن المصلوحي.





رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم