يحبّ الليل كثيرًا، للحد الذي يعجزه على وصف هذا الحب السرمدي..
كان قبل دقائق منكبًا بكل جوارحه على رواية في الأدب الفلسطيني، قام بكتابة بعض الملاحظات، ثم قام للمطبخ أعد قهوة وعاد يتهادى بالفنجان، يرتدي سروالا قصيرا، وقميصا خفيفا، فرك شعره بدون وعي، دخل الغرفة وجلس في هدوء، لا يعرف ماذا يفعل.. هل يحمل كتابًا جديدًا! يشاهدُ فيلما أو يرهف سمعه للموسيقى..
لم يتحرك قيد أنملة.. كتمثال في زقاق مهجور، لا أحد يراه ولا يعلم بخبره، هكذا عالمنا! حياتنا!
تناهض كأنه ينفض عن رأسه فلسفة الوجود، وهذا التراكم المندفع من الأفكار لرأسه.. مرّر طرفه على الرفوف ثم مدّ يده بحب لكتاب أوراق الورد للرافعي..
لعمري! كيف يخبر الناس عنها! ودّ لو استطاع، وكتب عنها كما يجب، فهي في نظره أكبر من اللغة، كيف له أن يجعل من جمالها حروفًا، ويخرج من عيونها نصوصا! هي تفعل ذلك! لكن كل هذا يبقى حبيس صدره، هناك في مكان قصيّ لا شرقي ولا غربي، كبلد مبارك تقطنه هي وحدها. وجعل فيه بيتًا لا صخب فيه ولا نصب.. لها دون العالمين!
كيف له أن يكتب عن إنسان بكل هذا! كيف؟
تنهدّ! ارتشف من الفنجان، وعاد للأريكة تحت المصباح للقراءة.. ويشعر كأنها معه متوسدة يدها وتمنح طرفها إليه، جالسة بخشوع ملائكي..
تبسمّ مع نفسه.. وضرب على صدره برفق، ثم قال ضاحكًا: كنت كمهاجر دون أهل ولا وطن! هنا وهناك! لا يدري بي أحد، ولا اسم لدي، كل من يلتقيني يقول : من ! حتى جاءت هي فصارت أهلي ووطني وكل ما أملك، فقالت لي مسترسلة: أهلا يا محمد، أنا معك..
فعادت الحياة بكل معانيها لهذا الإنسان..
فصمتَ برهة ثم وضع الفنجان على الطاولة، وانكبّ على أوراق الورد..