لعنة ماضي - أحمد سليمان أبكر

 



متقدة الأحاسيس،لكنها تملك من الخبرة ما يكفي لإخفاء طباعها تحت قناع من الحزن الدفين،لم يخف إعجابه بخطي حاجبيها المرسومين بدقة متناهية،ومثل قوسين بديعين فوق أنف شامخ يعطي لصورتها الجانبية جاذبية خاصة، أما شعرها فقد كان مثل كل التفاصيل الأنثوية لجسدها النفيس البالغ الترف والأناقة،وتبدو أنها راضية عن جمالها إلى حدّ الغرور، ويتضح ذلك من ثقتها العالية في نفسها والتفات الأنظار اليها.

تصاعدت الغيوم الحبلى بالمطر بأذرعها الرمادية إلى الأعلى، صارت ظلالها الممتدة تتسلل تباعًا إلى المقهى،بدأ الناس يغادرون، لم يبق إلا هو وهي في المكان،نهضا في لحظة واحدة، توثبت نظراتهما،اكتشف أن رأسها قريب من شفتيه،تماوج فوقهما شعرها الأسود،نثر وجهها في مشاعره حالة من الاجتذاب العشقي جعلته يتمسح بتلك المشاعر الخفية كل أنوثتها المتدفقة،ويهمس في أذنيها بأنه يريدها أن تكون شريكة حياته،لاذت بالصمت،رغم أن شهيتها إلى الكلام معه كانت تشتعل فيها بتلذذ لم تمارسه من قبل، أعاد عليها الطلب، لم تمانع

من أن تفكّر بالأمر،وجد قبولها نوعًا من الاعتراف بانجذابها إليه.

لم يخطر ببال أحد،أنها لم تكن عذراء، ولم يعرف أحد أن لها علاقة حب سابقة،وهي التي ترعرت تحت مراقبة صارمة من أم حديدية، وحتى عندما لم يبق سوى شهر لزواجها منه، لم تسمح لها أمها بالذهاب معه وحدها لترى البيت الذي سيعيشان فيه،وإنما رافقتهما شقيقتها الكبرى صونًا لعفتها.

في بيئة ما برحت تقدس الشرف،وجدت نفسها تعاني وطأة العلاقة الآثمة التي ألمت بها،حاولت أن تشيح عنها وتدفنها في غلفة وعيها،لكنها كانت تنبعث من جديد وتتحول من حالة إلى أخرى،وقد انتقل ما ترسّب في قاع ضميرها من مرارة العقد النفسية الكالحة إلى ملامح كره، فلم تكن تكره الناس بقدر ما كانت تكره نفسها لتكفّر عن خطيئة جعلتها تبدو كلغز ضائع،ونغم شاذ منبوذ في إيقاع الوجود، وهي تشعر بأن الحياة أضحت عندها عبء من العار والذل والتيه منذ أن صادفته،إنه هو نفسه من التقت به منذ أكثر من عشر سنوات، أثناء تلك المرحلة السخيفة من حياتهما، حيث كانا يؤمنان بلغة الجسد وكيمياء الحب وتفاعلاته.كانت تعتقد أنها قد طوت تلك الصفحة منذ أن غادرت الجامعة؛لكن هيات ها هو الماضي قد عاد يجرجر أذياله ويشي بتلك الصورة السوداوية من جديد.

لقد كان في خياله عيد دائم وكان يستطيع أن يفكر فيما يريد في أي وقت كونه حرًا؛أما الآن فإنه أسير،جسمه مكبل بالعزلة في غرفته،ونفسه سجينة في فكرة مروعة دامية لا ترحم ولم يعد لديه سوى فكرة واحدة،سوى إقتناع واحد ويقين واحد أن فرحه محكوم عليه بالإعدام،ومهما فعل،فإن هذه الفكرة الرهيبة هنا دائمًا،إلى جواره، تطرد عنه كل تسلية وتهزه هزًا عنيفًا كلما أراد أن يدير رأسه أو يغمض عينه، إنها فكرة مفزعة تتسلل إليه بكل الطرق تطارده في يقظته، وتتجسس عليه في منامه المضطرب، وتظهر مرة بعد أخرى في أحلامه في صورة قلق لم يستطع الفكاك منه،شعر بنفسه يسقط في فضاءات مظلمة واسعة موحشة، أحس بصراع عنيف يتخلله، حاول الرجوع إلى داخل نفسه، بذل مجهودًا كبيرًا لكي يتذكر شيئًا من ماضيه دون جدوى، أغلق عينيه، أصابه الدوار،سقط رأسه بسرعة مخيفة في بئر مظلمة، وقبل أن يصل إلى القاع ، سارع بفتح عينه كي يتجنب إحساسه بالسقوط.

بدأت تغلغل إلى وعيه صورة وجه كان باديء الأمر مشوشًا،لكنه أصبح واضحًا تدريجيًا،وجه محدّدّ لفتاة محدّدة لم يكن يريد التفكير فيها، وكان يجيد تحاشيها في ذكرياته دائمًا، ويجيد ولو في آخر لحظة طرد صورتها من مخيّلته، لقد تسبّبت له بشعور من الإثارة والإرتباك لم يكن يتوقع حدوثه،وقد عزّز من شعور الإثارة كونه ربما يعرف هذه الفتاة.

طفق يشك في ذاكرته، ويعتقد أنه في حلم أو ربما مصاب بالحمى وأن هذه الهواجس الغريبة ستزوال بلا شك ولا داعي لهذا القلق،في غضون  ذلك تلقى رسالة على الواتساب مفادها: عليه أن يعرف أنها تحكي ها هنا سخف طيشها الماضي، ويفترض أن تخجل من ذلك،لكنها ليست خجلة،لأن حبها له لم يكن أشد نقاء ووجدًا إلا بذلك الإفراط الساذج، ويمكنها أن تحكي له طيلة الساعات والأيام التي عاشتها معه،ويمكنها أن تحكي له طيلة تلك الأعوام  التي نسيها منذ زمن بعيد؛ويمكنها أن تنشر بين يديه صحائف حياته بأكملها، ولكنها بحق حبها له لا تريد إزعاجه،فقط  تريد أن تبوح له بأنه وراء وئد أجمل حدث تنظره فتاة في حياتها.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne