سِـرُّ ٱختفاءِ ٱلسّمَك - مصطفى لمودن

 



"أهدي هذه القصة للأطفال، ويمكن طبْعها على الورق ووضعها بين يدي الأطفال لقراءتها.." - مصطفى لمودن.


     ظلَّ ٱلطاهرُ يَصْطادُ ٱلسَّمَكَ مِنَ ٱلنَّهرِ المُجاوِرِ لِقرْيَتِهِ كُلَّمَا رَغِبَ في ذلك، هُو لَيْسَ صَيّادًا مُحْتَرِفًا، بَلْ فَقَطُم يَحْمِلُ شِباكًا وَقُفَّةً، يَسيرُ على جانِبِ ٱلنَّهرِ يَسْتَنشِقُ ٱلهَواءَ ٱلنَّقِيَّ، وَيَسْتَمْتِعُ بِٱلمَناظِرِ ٱلْخَلَّابَةِ، وَبَعْدَ نِصْفِ يَوْمٍ يَعودُ بِقُفَّةٍ مِنَ ٱلسَّمَكِ ٱلطّرِيِّ، يَتْرُكُ جُزْءًا مِنْهُ لِأُسْرَتِهِ، وَيَمْنَحُ ٱلْبَاقِي لِجيرانِهِ..

  لَكِنَّهُ ٱلْيَوْمَ اصْطَدَمَ بِواقِعٍ آخَرَ، كُلّمَا أَخْرَجَ ٱلشّبَكَةَ مِنَ ٱلْماءِ، يَجِدُها فَارِغَةً بدون أيَّةِ سَمكَةٍ !

 بَدّل ٱلْأماكِنَ، تَقدَّمَ أكْثرَ  بِمُحاذاةِ ٱلنَّهْرِ، ولا سَمَكة !

  وأخِيرا تَحَرَّكَ حَبْلُ ٱلشّبَاكِ في يَدِهِ، وَجَدَ مُقاوَمَةً وَثِقْلاً وهو يَجْذِبُها نَحْوَ ٱلْأَعْلَى، أخْرجَ ٱلشّباكَ بِبُطْءٍ وَحَذَرٍ كما يَفْعَلُ دائما فِي مِثلِ هذه ٱلْحَالَةِ.. 

  مُفاجأةٌ غَيْرُ سَارَّةٍ، ظهرتْ لَهُ سُلَحْفاةٌ كَبيرَةٌ، تَتَخَبَّطُ، وَقَدِ الْتَفَّتْ حَوْلَهَا خُيُوطُ ٱلشّبِكَةِ..

   ماذا سَيَفْعَلُ بِسُلَحفاةٍ؟

   وَلَكِنَّهُ وَجَدَها فُرْصَةً مناسبة، وَسَأَلها عَنْ غِيابِ ٱلسّمَكِ..

   قالت له: ـ« بَدَوْرِي لا أَعْرِفُ».

   طَلَبَتْ مِنْهُ أنْ يَتْرُكَها بِسَلامٍ، لَكِنَّهُ رَفَضَ حَتَّى  تَدُلَّهُ عَلَى  مَكانٍ بِهِ السَّمَك، لا بُدَّ أنّ ٱلْأسْماكَ أصْبَحَتْ مُحْتاطَةً جِداً، وَرُبَّما الْتَجَأَتْ إلَى مَكانٍ آمِنٍ تَحْتَمِي بِه، قَدْ يَكونُ تَجاوِيفَ صَخْرِيَّةً، أوْ بَيْنَ جُذورِ الأَشْجارِ المُمْتَدَّةِ تَحْتَ المَاءِ.. 

   قَبِلَتِ ٱلسُّلحفاةُ أن تُرافِقَهُ، لَكِنَّها اشْتَرَطَتْ عَليْهِ أنْ يُطْلِقَ سَراحَهَا بِمُجَرَّدِ وُجودِ مَكانِ ٱلأسْماكِ..

   اسْتَجابَ لِشَرْطِها، وَسارا مَعًا بِمُحاذاةِ النَّهْرِ، كُلَّمَا وَجَدَ ٱلطّاهرُ حَوْضا صالِحا لِشبكةِ ٱلصّيْدِ، تَنزلُ ٱلسلحفاةُ إليْهِ، وَتَتَسَّرُب داخِلَ ٱلْماءِ باحِثَةً عَنِ الأَسْماكِ المُخْتَبِئَةِ. وَحَتَّى لا تَفِرَّ ٱلسّلحفاةُ، رَبطها ٱلصّيَّادُ مِنْ قائِمَتِها ٱلْخَلْفِيَّةِ بِحَبْلٍ مَتِينٍ، يَشُدُّ ٱلحَبْلَ بِقُوَّةٍ، ولمَّا تًتَأَخَّرُ، يَجُرُّ ٱلحَبْلَ فَتَعُوُد ٱلسّلَحْفاةُ. كُلَّ مَرَّةٍ تُخْبِرُهُ بِعَدَمِ وُجودِ أيَّةِ سَمَكَةٍ !

    سَمِعا في طرِيقِهما نَقيقَ ٱلضّفادِعِ، وهي تُصْدِرُ أصْواتًا مُرْتَفِعَةً، مُحدِثَةً جَلَبَةً كَأنَّها فِي خِصامٍ أوْ تَخوضُ ٱحْتِجاجاً. صَمَتَتِ ٱلضّفادِعُ لمّا شَعَرَتْ بِقُدومِ ٱلطاهِر ٱلصيّاد وٱلسّلحفاةِ ٱلأَسيرَةِ، وقَدْ وَجَدَتْ هذِهِ الأَخيرةُ ٱلفُرْصَةَ سَانِحَةً لِتَسْأَلَ ٱلضفادعَ عَنْ غِيابِ ٱلأَسْماكِ عَنِ ٱلنَّهْرِ..

   تَقَدَّمَتْ ضِفْدَعَةٌ مِنْهُما، وتَكلّمَتْ بِصَوْتٍ حَزِينٍ:

  ـ «لَقَدْ كُنّا نَتَحَدَّثُ في هذَا ٱلشَّأْنِ، نَسْتَظِلُّ بِهذهِ ٱلشّجَرَةِ، وَمِنّا مَنْ يَدْخُلُ تَحْتَ ٱلحَشائِشِ، لأَنّنَا لَمْ نَعُدْ نَسْتَحْمِلُ ٱلماءَ..»!

   اعْتَلَتْ حَيْرَةٌ ٱلطاهرَ وٱلسلحفاةَ..!

   قالتِ ٱلسلحفاةُ: ـ«أنا لَمْ أَحُسَّ بِشيْءٍ، رَغْمَ أنّنِي أصْبَحْتُ أَجِدُ للماءِ مَذاقًا مُخْتَلِفاً وبِهِ مَرارَةٌ».

  رَدَّتِ ٱلضّفْدَعَةُ: ـ«وَهَلْ فَقَدْتِ حَاسَّةَ الشّمِّ؟ نَحْنُ لَمْ نَعُدْ نَقْدِرُ على دُخولِ ٱلْماءِ».

   تَساءَلَتِ ٱلسّلحفاةُ، وهي تُريدُ جوابا عَنْ سَبَبِ اخْتِفاءِ الأسماك، أو أنْ تُرشِدَها ٱلضفادعُ لِمَكانٍ تَعْرِفُ أنَّ بِهِ سَمَكاً:

   ـ «وأيْن ٱلْأسماكُ»؟

  أجابتِ ٱلضفدعةُ: ـ «لَقَدْ هاجَرَتْ جَميعُها إلَى ٱلْبَحْرِ، ولَمْ تَبْقَ أَيّةُ واحِدَةٍ بٱلنّهْرِ».

    اقتربَ ٱلطاهرُ مِنَ ٱلماءِ، جَثَا على رُكْبَتَيْهِ، غَرَفَ بِكَفّهِ مِنَ ٱلماءِ ٱلْمُتَدَفِّقِ، قَرَّبَهُ إلى أنْفِهِ، وَجَدَ به رائِحَةً  غَريبَةً، وَلَوْنُهُ يَميلُ إلى ٱلاحْمِرارِ !

    أطْلَقَ ٱلسّلحفاةَ، وقَدْ بَقيتْ إلى جانِبِ ٱلضّفادعِ. صَعَدَ ٱلطاهرُ إِلَى ٱلأعْلَى مُتَتَبّعًا ٱلْمِجْرى ٱلّذِي يَنْزِلُ عَبْرَهُ ٱلْماءُ. وبَعْدَ مَشيِهِ في مَسلَكٍ صَعْبٍ حيْثُ تَعْتَرِضُهُ ٱلصُّخورُ وٱلأشواكُ، بَدَأَ يَحُسُّ بِأَنْفاسِهِ تَخْتَنِقُ، رائِحَةٌ كَريهَةٌ تَغْمُرُ ٱلْأجْواءَ. بَعْدَ بُرْهَةٍ ظهرَتْ لهُ سَحابَةٌ سْوداءُ غَيْرُ مُعْتادَةٍ تُغَطّي قِمّةَ ٱلْجَبَلِ، وتَحْجُبُ عَنْهُ رُؤْيَةَ ٱلْأشْجارِ. تَقَدَّمَ أَكْثَرَ، فَظهرَتْ لَهُ أوَّلاً مِدْخَنَةٌ عالِيّةٌ، تُطْلِقُ دُخّانا أسْوَدَ كَثيفًا، ثُمّ بَرَزَتْ لَهُ بِنايَةٌ كَبيرَةٌ، اقْتَرَب أَكْثرَ، فَهَالَهُ ٱكْتشافُ أُنْبوبٍ يَقْذِفُ في ٱلنّهْرِ سَاِئلاً أَحْمَرَ، تَنْبَعِثُ مِنْهُ رَوائِحُ كَريهَةٌ تَخْنِقُ ٱلْأنْفاسَ.. وَضَعَ مِنْديلاً على أَنْفِهِ، دَارَ على ٱلْبِنايَةِ، وَصلَ إلى بَوّابَةٍ كَبيرةٍ أمامَهَا طَريقٌ مُعَبَّدَةٌ تَلْتَفُّ عَـلَى ٱلْجَبَلِ مِنَ ٱلْجِهَةِ ٱلْأُخْرَى.. 

   تَقَدَّمَ مِنْهُ حارِسٌ ضَخْمُ ٱلجَسَدِ، وَشَرَعَ يَسْأَلُهُ عَنْ غَرَضِهِ، وَعَنْ مَجيئِهِ إلَى هذا ٱلْمَكانِ دُونَ حُصولِهِ على تَرْخيصٍ !

   طَلَبَ ٱلطّاهرُ مِنَ ٱلْحارسِ أنْ يَسْمَحَ له بِمُقابَلَةِ مُديرِ ٱلْمَصْنَعِ، لِيُحَدّثَهُ عَنِ ٱلنَّهْرِ وٱلْأَسْماكِ وٱلضَفادِعِ..

   ضَحِكَ ٱلْحارسُ كثيرا، وأَمَرَ ٱلطّاهرَ بِمُغادَرَةِ ٱلْمكانَ حالاً، وهَدَّدَهُ بِأوْخَمِ ٱلعَواقِبِ.

   لَكِنَّ ٱلطاهر لَمْ يَنْصرِفْ، وطَلَبَ مِنَ ٱلْحارسِ أنْ يُجيبَهُ عَنْ سُؤالٍ..

   اسْتَجابَ الحارسُ وَأَرْهَفَ ٱلسَّمْعَ، قال ٱلطاهرُ:

 ـ «ماذا يَصنعُ هذا ٱلْمَعملُ»؟

 رَدَّ ٱلْحَارِسُ بِهُدوءٍ غَريبٍ: ـ« يَصْنَعُ ٱلْوَرَقَ مِنْ أَشْجارِ ٱلْغابَةِ».

 رَدّدَ ٱلطاهرُ مَعَ نَفْسِهِ : ـ «كَارِثَةٌ؛ ٱلْماءُ وَٱلْغابَةُ فِي خَطَرٍ» !!

 عادَ ٱلصّيّادُ إِلَى ٱلْقَرْيَةِ، قَصَدَ مَدْرَسَتَها، وَٱقْتَرَحَ عَلَى مُديرِها أَنْ يُتيحَ لَهُ ٱلْحَديثَ إِلَى ٱلتّلاميذِ حَوْلَ ما حَلَّ بِٱلنّهْرِ، ثُمَّ لِيُفَكّروا جَميعًا في حُلولٍ مُناسِبَةٍ، حَتَّى تَعودَ ٱلْحَياةُ إِلى طَبيعَتِها ٱلسّابِقَةِ..



Post a Comment

Previous Post Next Post