كان يامكان في سالف العصر والأوان حبة رمل ناعمة، ضاقت بها الحياة ذرعًا
وهي تحمي أجساد الموتى مع عشيرتها تغلق الباب خلفهم، فكرت كثيرًا لم لاتتحرر من
ذلك العبء الملقى على عاتقها وتعود طفلة بلا مسؤولية، تمرح هنا وهناك، تجوب أقصى
الأرض وأدناها بلا حدود؟، لم لاتغادر حياة الكثبان الرملية التي تتشوه لطين مع أول
قطرة مطر تهطل؟.
نضجت الفكرة في عقلها الصغير وقررت أنها سترحل لكن ماذا إن انتهت حياتها
بأول هفوة من بني البشر؟.
"ألستِ
خائفة؟"
"بلى،
ولكن أليس الخوف أفضل من الموت هنا وسط تلك الشواهد المخيفة، أنا مصباح بلامشكاة،
جسد بلا روح، أوليس من حقي رؤية الجانب الآخر من العالم والبحث عن حياة
أخرى؟."
"أليس
كل خوف هو حياة؟"
"خوفي
من أن أهمل وأموت منسية لايعرف عني أحد شيء أعظم من موتي نفسه، وعلى كل أنت معي،
ألست كذلك؟"
"ربما
وربما لا، من يدري فأنت لا تؤتمنين حين تجدين نفسك حرة"
"أنت
نصفي الآخر، علاقتنا تكاملية وسواء تغيرت أم لا أنت ستجد ذرة أخرى تحررها"
"
أنت محقة"..
ومضت الذرة تتجنب كل هفوة، تنتظر محطة الزمن القادم، لاتعرف ما أسفل ركامه،
من ستلتقي، من سيستغلها تحت مسمى الحاجة والأسلوب،مسكينة، لم تعلم أن للحياة نفسها
وعثاء كوعثاء السفر، تتقلب مزاجيتهم، تارة يدهسون بأقدامهم، وتارة يصوبون الألوان
البيانية ويحسنون الصورة بتبرج البديع، حتى أن الأمر وصل للرياء بادعاء العمق وقلب
موازيين الحكم الفلسفي فصاروا يتفلسفون وهم يضمرون الرعونة وفي أوقات كثيرة يلتوون
كأن في عقولهم البله، وللإنصاف في أحايين قليلة تؤثر أنفسهم المعاملة الحسنة لها.
وفي ليلة قمرية تاهت بها دروب الحياة، بكت، وبكت معها السماء، لسوء الحظ أم
لحسنه لم تتحول لطين، مرت بالكثير، أُهدر دمها وأشيع أنها استولت على مواد عضوية
من الكيمياء، لم تعد تعلم ماذا تفعل وإلى أين تذهب، هل تعود مع حفنة التراب يعبأ
أنفها فساد قبور القساة العتاة، الخونة والآثمين، وإن عادت هل سيرحمها أبيها أو
رئيس العشيرة، وإن ظلت هنا فإلى متى ستظل هاربة؟
"ممتع
أليس كذلك؟"
.....
"التفكير،
صفاء الذهن مع النفس؟"
"أنت
السبب"
"حقًا
وهل قلت لك غادري، اتركي كل شيء واركلي، أنت أخبرتني أن الحياة هناك موت فلم
تعاتبين الآن، حقًا لماذا هربت؟"
"لأبحث
عنك، عن روحي، هناك أنا ميتة وحين وجدت فرصة لأبعث من جديد تشبثت بها بلاوعي هل
أجرمت؟"
"لكنني
كنت معك هناك أيضًا، أنا في كل مكان عزيزتي، أنت فقط لاترين سوى فتات يلقيها البشر
إليك كي يبهرونك ويخبرونك كم أنت خادمة رائعة، وأن بإمكانهم صنع المزيد مني،
لطالما ضمر باطنهم خلاف ما أخبروك به، لكن بسذاجتك صدقت"
"والآن
أنا أدفع ثمن ذلك"
"لاتقلقي،
سيكون كل شيء على مايرام، حتى لو أعدموك، سيأتي غيرك، أنت الكلمة المقدسة بالنسبة
لهم، الحرف وتد صلب يتزاوج مع حرف آخر مؤنث وينجبوا حروف وهكذا تدور الدائرة،
أجداد، آباء، أبناء، سينالون منك وستأتي أخرى يسخروا حروفها وحين ينتهون منها
ويلقون بها في سجن الإعدام سيأتي غيرها الكثير، هؤلاء البشر تهمهم الكلمات كثيرًا،
مظهر أنيق واجب اجتماعي لابد من تأديته، أما عني أنا المعنى فلك أن تتخيلي أن لي
نسخ مكررة بعضها مسخ مشوه لايرجى منه سوى الخرس، والبعض مني لادواء له سوى القتل،
حتى أنني أسخر من نفسي أغلب الوقت، لم أنا على قيد الحياة إلى الآن رغم كل شيء؟،
ربما هوذلك الخلود المزعوم الذي حكوا عنه، لكن لا أؤمن به، فأمثالك فقط من لهم
الخلود، كالقططة تزهق أرواحهم وتعود مرة أخرى.
"لقد
تعبت كثيرًا"..
"أعلم كل شيء، حين عانقت الأدباء وانتقلت بينهم ينتقيك كل له أهواء، حين تمسكت بأمل زائف في الإصلاح، حين خضعت للتجارب المعملية لتكوني فأر تجارب يقيسون مدى لياقته لذلك العالم، حين نُطقت زورًا، وحين تأولت لتلائمي دعارة النفوس.
صدقيني ياكلمة، الموت جيد لك، استسلمي لهم، وسآتي لك على المنصة أودعك الوداع الأخير، لن أنادي بصوت عال فأنا كما تعلمين معنى مضمر لايحق لي الظهور، سأودعك بإيماءة وأنت تقتحمين الحشود بشجاعة وحين ترحلين سأصافح الكلمة الجديدة التي هربت من مبعثها مثلك وسأخبرها أنك كنت طموحة أغرتها الحرية كفراشة، فطالتها مقصلة الحروف".