صعود الجسد والروح - محمد علي خضر


 


الحاجة اعتماد أرملة في منتصف العقد السادس من العمر تسكن بإحدى البنايات السكنية بمنطقة أرض اللواء بالقاهرة. ولديها سبعة أبناء بعدد أيام الأسبوع ثلاثة أبناء وهم أحمد وعماد وأكرم , وأربع بنات وهن صابرين , وسيدة , وعايدة ونجوى وجميعهم متزوجون ويقطنون في الدائرة السكنية المحيطة بها ولا يبتعدون كثيرا عن منزلها , علاقتها دافئة بكل أبنائها , الجميع يرغب في استضافتها عنده , ولكنها ترفض الإقامة خارج منزلها وبعيدا عن أشيائها التي تحبها وفراشها الذي اعتادت عليه لذلك اجتمع الأبناء رجالا ونساء وقرروا بالإجماع التناوب يوميا على المبيت معها بحيث لاتترك وحدها فى البيت , وهو ما أثلج صدرها بوجود أبنائها معها بصورة يومية .

كانت الحاجة اعتماد تسكن فى الطابق الثالث , وكانت في الطابق السابع في ذات العمارة   شقة سكنية مغلقة منذ فترة سافر صاحبها الأستاذ هيثم وأسرته إلى منطقة الخليج وكلف والده ببيعها ووكله فى عملية البيع , وقبل أشهر تم تركيب مصعد للعمارة التي كانت تفتقد المصعد بالتعاون بين السكان , ولم يتم فتح باب للمصعد في الطابق السابع  كون الشقة مغلقة والمالك مهاجر , بينما الشقة الأخرى في نفس الطابق كانت تسكنها أرملة متعسرة  تدعي نجاة ولا تسمح ظروفها بتحمل تكاليف فتح باب للمصعد بمفردها فقررت الاستغناء عنه مرغمة برغم المشقة التي تواجهها كل يوم في الصعود والهبوط مما يجعلها تلجأ  في طريق عودتها من السوق وهي محملة بالسلع إلي الإستراحة و إلتقاط الأنفاس لدي الحاجة إعتماد ثم تعاود الصعود إلي شفتها مستخدمة كارتة المصعد الخاصة بالحاجة إعتماد إلي الطابق الثامن ثم النزول طابق واحد بإستخدام الدرج ،

كان هذا الأمر يتكرر كل يوم حتي توطدت العلاقة بين الحاجة إعتماد وجارتها نجاة التي تقيم في الطابق السابع بحيث أصبحت هذه الجارة البعيدة هي أقرب الناس لقلبها ولايمكنها الاستغناء عنها ا

وذات يوم وبينما الابن الأكبر أحمد يمكث مع والدته إذا بها تخبره بأمنية تراودها من آن لآخر وهى بيع شقتها وشراء شقة الأستاذ هيثم الموجودة في الطابق السابع  بدلا منها وهنا خيم الوجوم على وجه أحمد وسأل أمه عن السبب في هذا المطلب الغريب ؟

-فقالت لأن ريح شقتها أصبح ثقيلا عليها وأنها بدأت تضيق بالمكان وأنها تعبت من طول الإقامة فيها , وتريد أن تصعد إلى فوق حاول أحمد إثناء أمه عن أفكارها ومطلبها الغريب ولكنها بدت مصرة على هذا الأمر الذي أعادت طرحة من جديد على كل أبنائها السبعة والذين قابلوا حديثها بدهشة واستغراب وعدم تأييد ولكنها كانت تبكى وتصرخ فيهم جميعا أريحوني يا أولادي أريد أن أصعد إلى فوق .

حاول الأبناء إقناعها بأن الطابق الثالث أيسر عليهم وعليها وبأن  لا أحد يفكر بهذا المنطق بالانتقال من أسفل إلى الأعلى , كما أن الشقة التي ترغب فى الانتقال إليها مغلقة منذ فترة ولا تتمتع بأية مميزات ولا يوجد بها غاز طبيعي , كما أن الطابق السابع  لا يوجد به باب للمصعد .

لم تكترث الأم لكل ذلك وواصلت تحديها لأبنائها وكررت رغبتها في الصعود إلى فوق , وأشارت على أبنائها بأنها تواصلت مع مسئول اتحاد الملاك وطالبته بتركيب باب للمصعد فى الطابق السابع وأنها ستتحمل بمفردها تكاليف فتح باب للمصعد  وأمام هذا الإصرار من جانب الأم وإلحاحها الذي فاق كل وصف 0

نزل الأبناء على رغبتها واستقر الرأى على تلبية مطلبها حتى لو بدا هذ القرار خاطئا وغريبا فلا يجب أن نحرمها من شيء تمنته فى حياتها حتى لا يؤنبنا الضمير بعد موتها .

وبالفعل تواصل أحمد مع والد هيثم لشراء الشقة لوالدته , كما كلف سمسار المنطقة بالبحث عن مشتري لشقة الوالدة .

وماهي إلا أيام معدودات وكانت شقة الأم قد بيعت وتم شراء شقة الطابق السابع  وتحققت أمنية الحاجة اعتماد بالصعود إلى فوق , وعلى الفور قامت بتجديد المكان وتجميله وتكثيف الإضاءة والتعاقد على الغاز الطبيعي , كما تم فتح باب المصعد , وهكذا تحقق لها الحلم الذى كانت تهفو روحها إليه باستمرار حلم الصعود إلى فوق.

 في هذه الأثناء كان الابن الأوسط عماد ينهي إجراءات سفره لأداء مناسك العمرة وقرر أن يصطحب أمه معه لأداء العمرة وأن يكون أول نزولها بالمصعد الجديد إلى الأراضي المقدسة , لقد ابتهج قلب الأم بهذا الامر وبالفعل تم الحجز لها ضمن الفوج المسافر بعد أسبوعين .

جلست الأم تعد حقائبها استعدادا لهذه الرحلة المباركة وغلب عليها الشعور بالراحة والفرح فكانت تتحدث كثيرا وعلى غير العادة مع أبنائها وزوارها عن المصابيح المعلقة فوق رأسها في شقتها الجديدة . وعن النور الكثيف الذى يملأ المكان وتصف باستمرار لضيوفها الإضاءة التي تميز شقتها وتبرر لأولادها حكمتها وحسن ظنها بالصعود لأعلى ولكن لا أحد يفهم ما تشعر به وكأنها ترى شيئا لا يراه غيرها .

وما أن أنهت حقائب السفر وأغلقتها استعدادا لرحلة العمرة , حتى بدأت تظهر عليها أعراض تعب وإنهاك مفاجئ ولم تعد تتمالك نفسها أو تسيطر على حركتها وبين نهار وليل ساءت حالتها وتدهورت صحتها بشكل لافت دفع الأبناء لنقلها على وجه السرعة لمستشفى خاص ولأول مرة تستخدم المصعد الذي فتحت  له بابا قبل أيام ولكن من أجل النزول إلى المستشفى ولا تعرف هل ستستخدمه صعودا أم لا .

حيث تم نقلها إلى غرفة العناية المركزة ووضعها على أجهزة النفس ولكنها كانت تقاوم بيدها هذه الأجهزة , فكانت تنزع عن وجهها أجهزة النفس بعنف لعلها كانت واثقة من عدم جدوى أي شيء وأنها الآن في نهاية الرحلة , وأن روحها تشق طريقها في رحلة صعود إلى العالم الأبدي , ولا تريد لهذه الأجهزة الطبية أن تعوقها أو تعطلها عن مسارها .

لم تطل إقامتها في غرفة العناية لأكثر من ساعات معدودة , فما أن أشرق نور الصباح حتى توفيت الأم وصعدت روحها إلى بارئها , حزن جميع الأبناء و الأحفاد على وفاة الحاجة اعتماد وكذلك جارتها نجاة  وبكوها بحرقة ومرارة  .

ولأول مرة يكتشف الابن الأكبر أحمد في موت أمه السريع أجوبة على التساؤلات التي طالما حيرته ,  لماذا أصرت في آخر أيامها على الانتقال من شقتها إلى الطابق الأعلى ولماذا استماتت على هذا المطلب رغم الكلفة الباهظة لذلك ؟

ولماذا كانت تكرر على مسامع الجميع رغبتها فى الصعود إلى فوق ولا تقبل مناقشة من أحد في هذا الأمر .

لقد فهم الآن سر تكرار كلمتها أريد أن أصعد إلى فوق وسر حديثها الذي لم ينقطع عن النور الذي تراه وتصفه باستمرار لكل من يتردد عليها .

ربما كانت تشعر أكثر من غيرها بأنها راحلة إلى مكان أجمل وربما رأت ورقة عمرها وهى تشرف على السقوط . وبأنها تودع الدنيا ولذلك اختارت بيتا جديدا فى مكان عال وكأنها تودع الأرض . فكان صعود الجسد الى أعلى هو كلمة السر لصعود الروح الذى رافقه.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم