الطبخ بالكتب - مصطفى أحمد

 



لم يكن يومًا عاديًا؛ منذ استيقاظها كانت زينب غير مرتاحة وشعور الخوف يتملك قلبها. لم تستطع الابتعاد عن فراشها حتى أفزعها الطرقُ على الباب، أوصلها الخوف بسرعة لم تنتبه لها، كان الطرق مستمرًا وشديدًا، لم يتوقف حتى فتحته:
- مَن؟
تفاجئت بدخول أم سلمى لها قبل أن تسمع جوابها:
- كيف حالكِ يا زينب؟ أمكِ كيف أصبحت صحتها؟
بقيت زينب تتمتم بكلماتٍ غير مفهومة بسبب بقايا النوم ما زالت في رأسها.
واستكملت دون أن تسمع جوابها:
- زينب حبيبتي، هل لي أن أطلبَ منكِ طلبًا؟ سأخرجُ للمكتبة لمدة ساعةٍ ونصف، وقد تركتُ على الطباخ إناء فيه الحساء، وآخر فيه الرز، لكنه لم ينطبخ للآن؛ وضعت عليه الماء وتركتهُ، سينشف بعد ثلاث صفحات. سكتت أم سلمى وكأنها تتلهفُ لرؤية ردة فعل زينب على كلامها.
- ثلاث صفحات؟!
- نعم، وهنالك جدر للشوربة، هذه من أجل العشاء، أنها تحتاجُ خمسة عشر صفحة أو أكثر بصفحتين، ربما بثلاث. يلا أنا تأخرتُ، سأعذّبكِ معي اليوم، لكنكِ بنتٌ مؤدبة وخلوقة.
ثم قبّلت زينب في خدّها لتترك فيها رائحة الثوم والطماطم المعصورة باليدين، وغادرت.

هل أنا أحلم؟ خاطبت زينب نفسها أمام مرآة الحمام وهي تغسل وجهها للمرة الثالثة. كل شيء تجمّع ليشكّل صدمة لها: على الرغم من أنها في البيت المجاور لهم، لم ترَ أم سلمى طوال خمس سنين إلا في بعض المناسبات، وقد صادف ذلك عندما كانت ترجعُ عند المغرب وترى أم سلمى واقفةً عند بابهم تنظر للسماء نديّة العينين ودموعها على الخد. لم تسمع صوتها إلا عند السلام عليها. شكّل لها هدا الأمر فضولًا دفعها أن تكون متشوّقةً لترى بيت المرأة التي ينعتها الكل بالغريبة آكلة الكُتب، لا أحد يعرف عملها وأصلها، جلّ ما يعرفونه أنها امرأة في الاربعينات من عمرها تسكن وحدها، تُدخل الكثير من الكُتب كل فترة الى بيتها ولا تُخرج منها شيئًا، غريبة الأطوار، وأسمها أم سلمى. حتى أن بعض نساء الحي حاولنَّ الدخول لبيتها لكن أم سلمى كانت لا تفتح الباب لهنَّ ولا تُدخل من يأتي اليها وترفض بكل صراحة.

دفعت زينب الباب ليُفتح بكل سهولة، مشيت حذرةً وهي تستذكر كلام أم سلمى عن الصفحات والأكلِ بشكلٍ أقرب للهذيان. وردٌ وشجرة ياس تزيّن مدخل البيت، وبضع الوريقات المتساقطة على الأرض. بضع خطوات كانت كفيلةً لتُدخل زينب في نطاق الروائح المتطايرة داخل المطبخ، أشعة الشمس تسقط على الملاعق والسكاكين وقدور الطبخ لتكون هي الشيء الوحيد الذي يُنير المطبخ، المكان يُدخلُ شعورًا غريبًا، خليطًا بين الحياة والموت، بين البهجة والسعادة، مزيجًا من الهدوء والصراخ.
كل شيءٍ رائحته زكية: رائحة الرز المطبوخ، الخبز الحار، ومرق الفاصولياء الذي تكشف رائحته عن عدم اكتماله بعد. الصحون والملاعق شديدة النظافة، استطاعت زينب أن ترى انعكاس نفسها فيها. السكاكين حادّة بشكل خافت منه زينب أن تجرح نفسها وهي تنظر فقط.
خلعت عباءتها، منذ دخولها كان ملمس السجاد على الأرض مُلفتًا، ووجوده في المطبخ لم يمنعه أن يكون نظيفًا. رفعت رأسها: رفٌ طويل يمتد على عرض المطبخ، وضِعَ عليه قماش يتدلى منه، ممتلئ بالكتب المُرتبة بحذرٍ ودقة ولا يفصل بينها سوى بعض الورد. كل الكتب كانت مُجلّدة يدويًا باللون الأحمر. في منتصف المطبخ كانت هنالك طاولة صغيرة ينضم اليها كرسيٌ وحيد. وعلى الطاولة كتابٌ بجلادٍ أحمر أيضاً، الى جانبهِ ورقة دفتر صغيرة، وقلم حبر أسود أنيق.
تقدمت زينب نحو الطباخ الذي كان يجاور الباب، الرز قد انطبخ توًّا، وضعتهُ على نارٍ هادئة، كانت رائحة البصل المقلي خفيفة تمتزج برائحة الرز. تساءلت بصوتٍ مسموع وكأنها تُخاطب أحدًا:
- كم الوقت الذي قالت عنه؟ أعتقد أنه ثلاث صفحات، هل تطول عندها الثلاث صفحات كل هذا الوقت؟
لم تشعر بالارتياح في المطبخ، الفضول يدفعها لتستكشف باقي البيت، رأت بابًا يؤدي للبيت، توجهت نحوهُ، فتحتهُ، لكنه لم يُفتح، كان مقفلًا. رجعت زينب وجلست دون أن تنظر على الكرسي، سمعت صوت تكسرٍ قوي، وقفت خائفة جافلة، رأت نظارة طبيةً موضوعة على مقعد الكرسي، وعرفت أنها قد كسرتها عندما جلست عليها. أبعدتها وجلست مرةً أخرى ثم سحبت الكتاب نحوها، فتحتهُ، الصفحة الأولى فارغة، الثانية كذلك، والثالثة تتوسطها كلمة وحيدة في وسط الصفحة مكتوبة بخط أنيق (مخطوطة). كل الصفحات كانت مكتوبة بخط اليد، قرأت منها، لتعرف من أول سطرين بأن هذا هو كتاب شعر.
- أم سلمى شاعرة؟
اتجهت زينب نحو الرف الأول، سحبت منهُ كتابًا، وعادت نحو الكرسي. فتحت الكتاب، لم يكن مخطوطة كما الذي في سابقه، بل هو كتابٌ مطبوع، يحمل اسم (شرق المتوسط) تصفحت صفحاتهِ بصورة عشوائية فسقطت منها ورقة لم يخلو منها سطرًا إلا وكُتِبَتْ به كلمة بالحبر الأسود، كما كانت الورقة تحمل آثار أصابع ملتصقة فيها البهارات، خمّنت أنها كتبتها وهي تطبخ. أرادت عدم التطفل وارجعت الورقة لمكانها، أغلقت الكتاب، وقفت أمام رف الكتب لتعيده، دفعها شعور قوي لقراءة ما في الورقة، رجعت وفتحت الكتاب، وأخرجتْ الورقة:
(حتى في السجن، كان وجههُ مُبهجٌ يداعبُ قلبي، يبعثُ فيّ السعادة وسط الألم عندما أراه خلف القضبان، لكنه كان يقول لي بكل ثقة بأنه مرتاحٌ هُنا، ويتمنى لو أنني معه خلف القضبان لتكتمل لديه الحياة المثالية ومن ثم يضحك. كُنت أعرف أنه يكذب، الملابس التي كنت أجلبها له ليلبسها كانت عريضة من فتحة الصدر، أرى، عندما يغفلُ وتنزاح الفتحة، آثار الضرب الواضحة. لم أتجرأ أن أسأل يومًا، وكأنهُ يعيش في عقلي ويعرفني عندما أريد سؤالهِ، ينظر لي بنظرةٍ تقول "أرجوكِ.. لا تسألي" ولم أسأله بعد أن خرج من السجن حتى انتقل الى رحمة ربه) صُدِمَتْ زينب وضاعت في أفكارها، كما ملئ الحزن قلبها، وتذكرت دموع أم سلمى وقت المغرب. لكنها بقيت تتساءل من الذي تتكلم عنه؟ ابنها؟ أخيها؟ زوجها؟ فتحت الورقة مرة أخرى، لكنها لم تستطع أن تُكمل القراءة. أرجعت الورقة للكتاب وأعادتهُ نحو الرف. جلست مرة أخرى حزينة، ورجعت لتتصفح المخطوطة، ووجدت أيضاً فيها ورقة مُلطخة بالبهارات، مكتوبة بالحبر الأسود. أسرعت الى كتاب شرق المتوسط وأخرجت منه الورقة، طابقَت بين الخطّين: بين الياء في الورقتين، الألف، الهمزات، علامات الترقيم. الخط هو نفسه. فتحت الورقة التي وجدتها في المخطوطة، ترددت بقراءتها، سحبت نفسًا، أغمضت عينيها، أرجعت خِصل شعرها وراء أذنها ثم قرأت:
(أنا أتعامل فقط مع الكتب، فمنذ غادرني كرار غادرتني الحياة معهُ، عندما أشتاق له القراءة هي السبيل الوحيد للقائه، كُتب الشعر هي من تحملني على أجنحتها وتأخذني لألمس وجهه، أتحسس ذقنه، وأحاول أن أحفظ ابتسامته قدر الإمكان. نعم انني أستطيع رؤيته، لكن لمراتٍ معدودة فقط، لا أريد أن أفرّط به بسبب شوقي كما فعلتُ في المرة الأولى، لو أنني لم أكتب له أنني مشتاقة وأريد رؤيتهِ لما استعجل بالعودة ليموت في الطريق. أنا ألوم نفسي كل ليلة، ابكي بحرقة وكأنها الليلة الأولى، لو لم ألح عليه لكان الآن الى جانبي ينشدُني آخر أبياته التي كتبها، لكان الآن ينتظر مني أن أطبخ له مرق الفاصولياء كما يُحبها بالكثير من القرفة والكمّون.
هذه هي مخطوطة زوجي، حُب حياتي: كرار.
كان مهووسًا ببدر شاكر السياب، قال لي مرة: "زينب...)
- زينب! ثم صفقت بيدها على صدرها دون وعي منها:
- زينب! نفس اسمي! تملّكها الفضول أكثر وأكملت القراءة:
(زينب، قراءة بدر أشبه بأكل الخُبز الحار مع الشاي في ظهيرة شتوية. هذا الشاعر ينطقُ بكل ما يخطر في بالي. عندما أُكمل ديواني الشعري أريد من الناس أن تقول عني كرار السياب، بعد هذا لا أريد من الحياة شيء، فأنتِ لدي، وهذا يكفي." وها أنا اليوم قررتُ بعد سنينٍ من الفراق، أن أستجمع قوّتي لأرتب ديوان كرار، ولا أعرف ماذا سأسميه. المهم أنني سأبدأ به هذه الأيام، فلم تتبق لي إلا مرة واحدة للقاء كرار بين الكتب، سأراه برداءه الأبيض لأقول له بكل فرح: كرار! أكملتُ ديوانكَ وطبعتهُ! لا داعي لأن تطلب ذلك مني في أحلامي. لأرى ابتسامتهُ تغزو قلبي فرحًا)
بكت زينب كثيرًا على أم سلمى، مسحت دموعها، شربت كوبًا من الماء ثم رجعت لتكمل القراءة:
(كُنا نقرأ الكتب أنا وكرار سويةً، وكان دائما يرددُ لي ألا أترك قراءة الكتب، لذا أنا اليوم وحتى بعد وفاتهِ لم أترك القراءة، وفي كل كتاب أضع ورقة أكتب بها مشاعري تجاهه، وبماذا يُذكرني هذا الكتاب، وكيف يرتبط بصورة كرار في رأسي، أراه في كل سطرٍ، فلا شيء يذكرني به سوى الكتب والطبخ، لقد كان يستمتع بالطبخ كثيرًا، ومكانه المُفضل للقراءة هو المطبخ.. يقيسُ وقت الطهي على صفحات الكتاب الواحد، عندما يقرأ رواية فإن الرز عنده يحتاج خمس صفحات ليُطهى، أما إذا كانت مسرحية فإن وقت الرز يزداد ليكون ثمان صفحات. البطاطا المسلوقة تحتاج عشرين صفحة رواية، وثلاثين صفحة مسرحية. أما كتب الشعر لم يكن يقرأها عند الطبخ، بل يضع ابريق الشاي على الطباخ وتحته نار هادئة، ويبدأ بالقراءة، يقول لي بأن الشعر كما الشاي، يحتاج صبرًا وهدوء لنقرأه. لم أسأله يومًا عن هذه الحالة العجيبة لديه، بقيتُ أستمتع بها دون معرفة تفسيرها، كل شيء فيه كان حيًّا...)
سمعت زينب صوتًا في الخارج، قامت وبيدها الورقة، وقفت الى جانب الطباخ، ولم تنتبه للنار التي تمسّكت بالورقة حتى لسعتها حرارتها، رمت الورقة وخرجت من المطبخ، ولم يمض الكثير حتى اشتعل سجاد الأرضية بسرعة، ووصلت النار الى أنابيب الغاز في الطباخ، انفجر وتطايرت أوراق الكتب ومن بينها صورة لشابٍ أسمر ذو ابتسامة مفعمة بالحياة، هلعت زينب فخرجت مسرعة لتترك النار تلتهم الكتب وتحوّلها لرمادٍ أسود، كل شيء مُحاطٌ بالنار، والدخان بدأ بالتصاعد من المطبخ ليعلن عن احتراق ما تبقى من كرار: المخطوطة، الصور، الكُتب، المذكرات، البهارات، الصحون. ركضت زينب دون حجابها خارجةً من البيت. وفجأة وجدت أم سلمى في الشارع تنظر للدخان وألسنة النار المتصاعدة أمامها، بنفس الدموع على الخدين، سقطت من يدها الكتب التي جلبتها من المكتبة، وسقطت فوقها دموعها، ثم سقطت هي فوق كتبها، لقد تركت قلبها هناك يحترق مع الكتب في المطبخ.




رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne