أشرف هاشم موظف بشركة أدوية بفرع الإسكندرية , سافر إلى القاهرة
في مهمة عمل خاطفة في المقر الرئيسي لشركته بالقاهرة , بعد أن أنهى مهمته هناك أثناء
توجهه لموقف مشعل بمنطقة الهرم القريب من شركته ليستقل سيارة ميكروباص للعودة إلى الإسكندرية
وعند دخوله إلى الموقف عثر على شنطة حريمي صغيرة بها هاتف محمول وبعض التحاليل
والفحوصات الطبية , أمسك أشرف بالحقيبة وانتظر لفترة على أحد المقاهي أن تتصل
صاحبة الهاتف كي يعيده إليها ولكن الانتظار طال ولم يتصل أحد , فخشى أن يترك
الهاتف والحقيبة لدى أي شخص لا يثق في أمانته , لقد فكر في بادئ الأمر في ترك
الهاتف والشنطة لدى صاحب المقهى بصفة أمانة ويستحلفه بأن يبقيه مفتوحا وأن يعيده إلى
صاحبته , ولكنه سرعان ما رفض الفكرة , فما الذى يضمن له أن صاحب المقهى سيعيد
الهاتف والأوراق إلى صاحبتها , وما الذى يضمن أنه حتى لو أعادها لن يساومها عليها ؟
لقد انتظر قرابة الساعتين ونصف ولم يرن جرس الهاتف ,
فقرر أن يستقل الميكروباص ويعود إلى مدينته وأن يعيد الهاتف والأوراق بالبريد السريع
بعد معرفة صاحبتها .
ركب أشرف سيارة الأجرة وظل ينظر إلى الهاتف الذي عثر
عليه , يستحلفه أن يرن قبل أن تمتلئ السيارة بالركاب وتتحرك في طريقها إلى
الإسكندرية ولكن الهاتف لم يرن ولم يتصل عليه أحد طوال هذه الفترة وما أن تحرك
الميكروباص وقطع طريقا طويلا وعبر بوابة كارتة الرسوم , حتى راح أشرف في شبه غفوة
بعد أن شعر بثقل شديد في رأسه , كان السائق يسير في طريقه بسرعة
وصوت إذاعة القرآن الكريم الآتي من المذياع يملأ المكان , وقد أفاق أشرف
الذي كان يجلس بجوار السائق ودار بينهما حوار طويل مفعم بالود وتبادلوا أرقام
الهواتف وقال السائق إن سيارتي مميزة بحروفها وأرقامها ح ل م ( حلم ) 2023
وحينما تحتاج إلى السفر أو إلى توصيل أي شيء اتصل عليّ
وسأكون سعيدا جدا باتصالك .
وقد تخلل الحوار الطويل بين أشرف وبين السائق وتحديدا في
منتصف الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية وعلى بعد كيلو واحد من استراحة
الريست صوت جرس الهاتف الذي وجده أشرف وهو يرن عليه .
كانت المتصلة هي صاحبة الهاتف تقول في لهجة منكسرة وديعة
مساء الخير يافندم أنا مدام ريهام صاحبة الهاتف وقد سقطت حقيبتي الصغيرة من يدى في
الصباح وأنا منشغلة بطفلي المريض ربما في محيط الموقف , وأرجو من حضرتك أن تترفق بي
وتعيدها إليّ فإن فيها فحوصات وتحاليل مهمة خاصة بجراحة سيجريها ابنى غدا فرد
عليها أشرف لقد انتظرت طويلا هذا الاتصال كي أعيد إليك الحقيبة ولكن أنا الآن في
طريق العودة إلى الإسكندرية عندما أصل إلى هناك سأرسله إليك غدا على العنوان الذي تريدينه
أو أعيده اليك مع السائق الذي أركب معه .
فقالت السيدة أستحلفك بالله أنا بحاجة ماسة في الصباح
الباكر للتحاليل والفحوصات الموجودة مع الهاتف وهي أمور لا تحتمل التأخير اأبنى
سيدخل في السابعة صباحا غرفة العمليات لإجراء جراحة دقيقة وعدم وجود هذه التحاليل سيؤدي
إلى تأجيل الجراحة وقد عانيت طويلا من أجل الحصول على هذا الموعد .
ولا قيمة لتلبية رغبة دهسها الوقت, ولا لإجابة مزقت
عقارب الساعة سؤالها وهو معلق , ولا يد تحاول تنظيف الخد من دموع تجمدت بسطحه , لا
قيمة لأحد يصل متأخرا بعد نهاية كل شيء , ولا معطف يُكسى به ميت بالعراء , أهم ما فى
كل شيء هو توقيته , التوقيت هو الذى يضفى القيمة على الأشياء اأو ينزعها .
فكر أشرف في كلام الأم وتوسلاتها , وفى الجراحة التي سيجريها
الطفل في الصباح الباكر , وفى أهمية الأوراق الطبية الموجودة في حوزته وفى خطورة
تأجيل الجراحة على حياة الطفل .
فطلب من السائق أن يتوقف عند الاستراحة على أن ينزل من
السيارة ويعود مجددا إلى القاهرة لإعادة الحقيبة التي تحتوى أوراقا مهمة لصاحبتها
وبالفعل استقل سيارة متجهة إلى موقف مشعل وبينما السيارة تقترب من الهرم فتح أشرف هاتفه
ليجد نبأ عاجلا سيارة ميكروباص متجهة إلى الإسكندرية تتحول إلى حطام بعد اصطدامها بسيارة نقل ثقيل والجميع بين
قتيل وجريح وظهرت في الصور اللوحة المعدنية الخاصة بالسيارة وهى ح ل م 2003 لم
يستوعب أشرف الصدمة فاتصل على رقم هاتف السائق فرد عليه أحد المسعفين بأن السائق
قد توفى في الحادثة وجثمانه الآن مع عدد من الركاب في مشرحة الموتى تمهيدا لتسليم الجثامين
إلى أهلهم وذويهم، بكى أشرف بكاء حارا على ضحايا رحلته التي نجا بمفرده منها وواصل
طريقه إلى منطقة الموقف وهناك وجد صاحبة الحقيبة تحمل طفلها وتقف في انتظاره .
لقد اعتذرت له المرأة لأنها جعلته يقطع كل هذه المسافات ليأتي
إليها , وللمشقة التي سببتها له .
ولكنه شكرها بشدة وأخبرها أنه لولا هذا الموقف الإنساني
الذي تحرك من أجله لما كان موجودا الآن بين الأحياء وأنه الناجي الوحيد من سيارة
العودة التي كان يستقلها والتي تحولت إلى حطام .
وأن هذا العمل الإنساني الذي أقدم عليه قد جنبه الهلاك وأبقاه
خارج الحطام .