الشيخ سرحَان - محمد صغير

 



يُسمع صراخُه من بعِيد ، فيعرفه النّاس أنه قادِم ، اعتادُوا عَليه و على صرَاخه ..

”أيهَا المَلاعين ، التّافهين .. يا إخوان إبليس!

فيمُر عَلىٰ النّاس و الزّبد يتطَاير من فمهِ ، و عيناه جاحظتَان ، ترمُقه أبصار السابلة بِسكينَة ، و تتبعه أحياناً حجَارة الأطفَال ترشقهُ و هم يتضَاحكُون ، حتىٰ يلومهم و ينهَاهم أحد المّارين فيركضون مبتعدِين عنه.

-أبوُ البنَات- كمَا يسمّونه ، أو الشّيخ سرحَان ..! هنَاك أقوَال عنه؛ كان متزوجًا و هانئ الحيَاة ، رزقه اللّٰه ثلاث بنات ، ثمّ مَاتت زوجُه بعد مرضٍ ، و بقيَ هوَ يرعى بناته و يقوم بأمرهنّ حتّىٰ كبرن ، فتزوجت اثنتان و بقيت الصغرىٰ معه في البيت ، إلىٰ أن هَربت يومًا مع بائع مخدّرات في المنطقَة ٱسمه عَاشور ، ليعودا بعد أسابيع، و يطلبها من أبيها ، بعد أن ألحت عليه ابنته أنها تقبَل به ، و لم تُراعي لنصائح والدها .

فتزَوجَا! و مكثَ معهُ في البيت بحجّة ريثمَا يجدُ بيتاً ليعيش فيه مع زوجتِه ، فتلعب به الأيّام ليلقي به زوج ابنته لِقَارعة الطّريق ، و ابنته لم تحَركْ ساكنًا ولم تختلج بين ضلوعها عاطفة تجاه أبيهَا ، و هدده عاشُور إن عاد للبيت سيبرحُه ضرباً .. لملمَ شتاته و هاجر لقريةٍ ، ولجهَا غريباً ، وجد كوخاً مهجوراً قرب الوَادي و اتخذه مسكناً .

كان عندَما يأتِي على جمَاعة من الرّجال يتطَارحون الحديثَ قرب دكّان ”عمو عبد اللّٰه“ يقول : من يعشّي أبو البنَات ؟ أنا ضَعيف لكن معي ربّي !

تدُور على ألسنَة بعض الشبَاب أنّهم في ليلةٍ مرّوا بجانب الكوخ فسمعوه يتلوا آيات القرآن ، و يترنّم بها بصوتٍ جميل ، فاعتادُوا كلّ ليلةٍ أن يأتُوا خفيةً ليستمعَوا لتلاوته ، فاكتشَفو أنّه يختم القُرآن كل ثلاثة أيّام ، فلقّبوه بالشّيخ سرحَان ، لأَنّه حينَما ينتهِي من تِلاوة القرآن ، يسرحُ بخيالِه و يجمد في مكَانه مدّة من الزمَن ، ثمّ يستلقِي فينَام..

أهل القَرية لا يعلمُون من أي مَكان أتَى ، استيقظُوا يومًا فوجَدوه بينهم ، يصيح! ينتعلُ نعلا من جلد ، و يرتدي جلبابًا أسود طوَال السنَة ، و إن أهدَاه أحدهم بعض المَلابس ، يشكر له جميلهُ و لا تراها عليه إلا يومَي عيد الفطر و الأضحَىٰ.

يأكُل ممَا يعطيه النّاس من طَعام ، أو يصَادف أحيانًا فلاَحاً في وقت الغذاء فيناديه ليشاركه وجبته : هيه يا أبو البنات، أقبل! ، فيجلس معه متربعاً يأكل بصمت مطبق ، ثمّ يمسح فمه بطرف جلبابِه ، و يلقي على صاحبِه دعوات و يتابعُ طريقه.

هكَذا أيّامه و حيَاته ، حاولوا مَرّات عديدَة أن يتحدّثوا معه و يعرفُوا عائلته أين ، لكنّه لا ينبس ببنت الشفة ، يبقى قابعًا في سكون ، ثّم يركضُ و يصِيح :

”أيّها المَلاعين ، يا تافهين ..يا إخوان إبليس“ .



رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم