كان يا ماكَان - محمد صغير

 



فِي مدِينةٍ مَا! صباح هادئ ونسيم منعش يهبّ بلطف، قضيت بعض مآربي وطفقت أبحث عن مقهى أجلس عنده، منحت نفسي كرسيًا فتقدّم النادل: صباحك! ماذا تشرب!

-قهوة سوداء، شكرًا. 

أجاب برأسه، والابتسامة لا تفارق ثغره. 


شربت كوب القهوة وختمتُ رواية الأيام لطه حسين، التي كنت قرأت تقريبا نصفها الأكبر في القطار.

فواتتني فكرة، كأنها ذكرى بعيدة جدًا، أتت مهرولة مستبشرة!

وَددت أَن أتسَكع قليلاً فِي الأَحياء العتِيقة للمدينة، علىٰ حِين ٱقتِراب مَوعد رِحلة إيابي فأقفِل عائدًا حينهَا للمَحطّة، قمت منصرفًا وناولت النادل نقوذه وطبطب على كتفي بمودة، وضعت السّماعَات حَيث الشّيخ الغامِدي يَتلو آي القُرآن، و حقِيبة علىٰ ظَهرِي أَحمل فِيها شَخصيّات لا أَستطيعُ مُفارقتَها البتّة ، خَلَّدَت نفسَها و جَعلت أروَاحها أطيَافًا تُحلق بَين الصّفحَات.. أيام طه حسين، ورسائل الرافعي، وكتاب لا أذكره الساعة..

وأنا في الطريق، سألت رجلاً عن الحافلة التي تقلّ لجهة "المدينة القديمة" كان واقفا بالقرب من محل بقالة، شعره خفيف ويرتدي بدلة رياضية، تفضل علي بحاجتي ثمّ شكرتُ جميله ورميت الخطى بتؤدة.. 

توقفت عند المحطة! ليس هناك اكتظاظ فالصباح في أوله واليوم يوم الأربعاء والناس منهكة بأمورها وأشغالها فمن يفكر بالتجوال وقتئذ، صعدت الحافلة ناولتُ عجزي المقعد، وبقيت ساهمًا لمعالم الطريق ومنكبًا بخيالي على شتى السبل، وصلنا بعد نصف ساعة، كانت آخر محطة سألت شابًا فأجابني أنها مقصدي.

طفقت أتمشى وأتغلغل في الزقاق، ليت شعري كم أحبّ أيما حب هذه البيوت العتيقة والأزقة الصفراء والنوافذ بالخشب الداكنة اللون، و أَنا كذَلك إذ مرَرت بحَانوت مُتوسط المِساحَة، يَبيع الكُتب المُستعمَلة، يفتَرشُ بعضًا منها علىٰ مسَاحة ٱستَغلهَا أمَام دكّانه، وَقفت أمرّرُ بصَري علنِي أجِد ضَالتِي، لمَحت كتاب "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، حَملته و قَلبتُ صَفحاته، أملأُ رئَتي برَائحة الأورَاق -عادَتي كلمَا حمَلت بين يدَي كتَابًا فتَحته و مَررْت الصّفحات بسُرعة حتّىٰ يُلامس رِيحها مَحياي- و أنَا أعيش الطقوس، إذ سمعتُ: توفيق الحكيم! يوميات نائب في الأَرياف ، بدَأتهُ و لم أتمِمه لضَغط الٱختبَارات ..!

ٱلتَفت إليهَا، وجدتها فتَاة بضّة الوجه، ميَّادة القَد ، تَرتدي حجَابا ، قَد أكُون أكبُرهَا بسَنتين أو ثلَاث .. أَومأتُ لها أنّي أرهفت السمع قَولها، ثم ٱبتَسمتُ ! حينئذٍ خرج رجُلٌ قدْ نيَّف علىٰ السِتين، يَحمل مجموعة كتُب، و هَمَّت الفتاة لتُعينَهُ ، فسَمعته يقُول : أهلاً أهلاً بِصغيرتِي ! متَى جِئت ؟ 

تَواً يا أبِي ! دَعني أحمِلهَا عَنك.!

فَجعلت تُرتبهَا علىٰ مِنضدَة من خشَب ، و أعطتنِي روَاية الطّنطورية و استرسلت قائلةً : ٱقرأها سَتعجبِك ! شَكرتها ثُم قلت : أنتِ بنت صَاحب المحل ! 

قَالت : نعَم ، ترعرعت هنَا في هذا الحَيّ ، الكلّ يعرفنا -عَائلة سي جَبران- لأن أبِي مُولع بالكَاتب جَبران خليل جبران ، مذ صِغري و أبي يُتاجر فِي الكتب واللّٰه ليس حباً في كَسب المَال البتّة ، ولكن غرضه أن يَتثقفَ النَّاس ، و يعلمُوا أمورًا جمّة ، و لعلمك يا .. !

أجبت بدون تفكير: محمد!

لعمري يا محمد! فَخورة جدًّا بوالدِي و أحبّ ما هو عليه و مُستهامَة بعَمله ! آتِي إلىٰ هنَا يوميًّا -تقريبًا- لأساعِده ، و أُحضر له الشَّاي و الطعَام أحيانًا .!

أجبتها قائلاً: كَان اللّٰه في عَونكم ! و رزَقكم من فضلهِ ! طيّب سآخد هَذين الكتَابين ..

-علىٰ الرّحب و السّعة ، و سأهدِيك هذا -كتَاب النّبي لجَبران خليل- .!

-شكَر اللّٰه لك و جزَاك خيرًا..

. .

فَأقفلتُ عائداً وقد راودني إحساسٌ أني تأخرتُ عن الرحلة، حنانيك يا الله.. 

أرمي الخطىً مبتعدًا، وقد تَركت رُوحِي منهمِكةً في تَرتيبِ الكُتب معهُما ، و تَسترقُ النّظر إليهَا بين الفَينة و الأخرَىٰ ..!



4 Comments

  1. عليك أن تعود، فروحك هناك😉

    ReplyDelete
    Replies
    1. سأعود عمّا قريب، شكرا لك

      Delete
  2. جميل جدا👏👏👏هل من مزيد ؟؟

    ReplyDelete
    Replies
    1. نعم لربما يكون جزء آخر كتتمة، شكرًا

      Delete
Previous Post Next Post