الوظيفة السامية للشعر - العربي لعرج


 


عرف الشعر قديما كالفارابي ومن ذهب في شرحه أن الشعر قول يحاكي ألأمر من المحاكاة وأصغرها الوزن ومنها التركيز على الأثر الذي يحدثه الشعر في المتلقي باعتباره تخيلا.

ويعرف في موضع آخر بقوله:الشعر من جملة ما يخيل ويحاكى بأشياء ثلاثة باللحن الذي يتناغم به فإنه يؤثر في النفس فتصير محاكية في نفسها لحزن أو غضب..الخ.

والواضح للعين أننا خرجنا من محاكاة الظواهر ألمادية والإحساس بها كالفرح والحزن إلى التشبث بأفكار غيرنا وإرضاء لهم .وهكذا وصل الشاعر إلى مرحلة الهذيان ولتبسيط المفهوم من الحد الأدنى ليس من حيث الجودة والجمال أو التصنيفات المتعددة التي أصبحت تزاحمنا أو نسقط فيها، حتى أن القائل للشعر ومن يدعيه اغترف من أنهار كثيرة نتيجة اللخبطة والخطوط الحمراء حتى أضحى لا يميز بين الحمل والعجل. ألوانا رمادية سيطرت على الفن الشعري وأدخلته تحت أضلاع الأسد واختفت الصور الحقيقية للشاعر ألصحفي والمحامي عن ألقبيلة والأسد المغوار والفارس المقدام و دجن ليصير مطاطي المعنى. 

إننا نتحدث عن موت الشاعر أو موت الرسالة الأدبية وكما تحدث الفلاسفة عم موت الفنان واضمحلال رسالته. وقد ارتبط هذا الموضوع بالشعراء الحداثيين أحمد سعيد أدونيس والشاعر اللبناني خليل حاوي، والشاعران العراقيان بدر شاكر السياب ، وعبد الوهاب البياتي وأحمد المجاطي المعداوي عن التيه الذي عرفه الإنسان المثقف ، هؤلاء الذين أدرجوا تيمة موت الفنان في قصائدهم. 

لم يكن الشعر العربي كله شعر يأس وإحباط ، فهناك أشعار تبث الحياة واليقظة والتجديد والانبعاث ،ومزج الشاعر العربي قصائده بأساطير رمزية تموز وعشتار والعنقاء وطائر الفينيق  و السند باد ، وكلها معان تعنى بالتجديد بشكل يتفاعل فيه الإحساس النبيل بالفكر النير. 

ولكن لا إحساس لدينا سوى شعر الهوى والعشق والتيه حول عاطفة مهزوزة مريضة تبحث عن العلاج والخلاص من عالم منمق فوضوي إلى عالم ضبابي يستبد بالقصيدة والشعر الحديث إلى اللامعنى.

الشعر كما وصل إلينا مهاب ألجانب قوي المعنى به رصانة ونخوة الكبار، أحاطه الشعراء القدامى بلفافة و قماش من حرير وقدروه ليكون خير أنيس ورسالة مضمرة إلى العقول النيرة، فهو ليس سلعة رخيصة يمكن لكل إذلالها،واحترافها ولا قطعة ثلج تذوب في قلوب العذارى وإنما هو رسالة يلهمها الشاعر بأفكاره، قوته، محرابه. 

تنظر إلى العالم بعين النقد لتغير القيم، ولا تقف عند القشور وإنما تنفذ إلى اللباب. 

فالشاعر القوي قوي الضمير، لا يرضى سوى بسمو الأفكار والتي ترفعه إلى الأستاذ المثقف، والصحافي الخبير الذي يذيع أخبار القبيلة والمحامي المدافع عنها،وعن فصيلته .بعيدا عن الدونية والقهر والمرتبة التي وصل إليها ولكن كما قال الإمام علي كرم الله وجهه لا رأي لمن لا يطاع. 

ولقد شعر الفلاسفة بهذه المزية لرسالة الشعر الحقيقية ورفعهم الى ذلك النبوغ الذي اشتهروا به فكان أرسطو يثور على إحساسه و يقاومه ، وظل أفلاطون يواجه السفسطائيين لتدني أفكارهم وكثرة جدالهم ، ودافع عن الفكرة الهادفة ، التي تسموا بالإنسان من مرتبة اللاعقل والاختبار إلى درجة النبوغ والكياسة والتفوق على الغريزة التي لطالما قيدتها الأحاسيس والعواطف وأفرغت العقل من محتواه الأخلاقي. 

ولقد كان لهذا الجمود الفكري أثر سلبي على صاحبه قبل عنايته بتقديم الموضوع الذي يحاول تبليغه ، ولو كانت فكرة الشاعر هو نقل الطبيعة ونسخها ، والانصياع لأحاسيسه لكانت تكرارا قليل القيمة. 

إن فكرة الرمانسي الحلول في الطبيعة ودمج روحه معها كانت جوابا على الزحمة والتضخم الفكري الذي عاناه شعراء المهجر وكذا الرومانسيين هؤلاء الذين تساهلوا مع الخط الواقعي للغة وأفقدوها الشعور بالانتماء إلى محيطها. وتركوا شعرا قويا كشعر أمل دنقل ومضفر النواب ودرويش والرصافي وسميح القاسم ينثر في الهواء. 

إن للشعر وظيفة سامية وتتركز في الربط بين الشعور وبين روح الإنسان التواقة إلى التحرر من قيود الأدب الارستقراطي ،الراسيني الذي لا يهمه التنويع و التقدم ، لأنه ببساطة لا يمكن تجريده من واقعه الذي نما فيه وتتطور وغرسه في خزان مثالي لا ماء فيه ولا بشر ، ليتصلب كالحجر كابن الرمة الذي أراد مدح عبد الملك بن مروان ولكن خانه معجمه لأنه عاش في بيئة متحجرة غابوبة فأنشد:ما بال عينيك فيها الماء ينسكب 

كأنه من كلى مفرية سرب. 

قد يقول قائل إن الشعر مهمته فضح الأحاسيس النابعة من الخيال ، كما أن له وظيفة إيقاظ العقول ، وتوسيع المدارك ،وتخفيف الاضطراب والعشوائية والنمطية في الشعر والحقيقة أن الشعر لن يحل محل الفلسفة في فهم وتفسير العالم وتغييره ، وإنما هو قوالب وجب تشغيله في طرق سليمة،حتى لا تذوب شخصية الشاعر في الرقص والتطبيل والتعبير عن الأحاسيس الأنثوية. 

إنما ندافع عن الشعر والشاعر لما له من قوة التأثير على المتلقي ليسهل استغلال تلك الرسالة ووصولها بطريقة سريعة كسرعة البرق، ويستقبلها عاقل آخر وتشفيرها وإلا ستسقط كالبلل في الطين. 

فالشاعر الفنان هو الذي يوحي بأنه مختلف عن القطيع، فله معايير تجعله رجل فكر، يقيم الصور و المعاني ، فكأنما هو يعيش في عالم غير عالمهم ويكابد من الخبرات النفسية غير الذي يكابدون ويفصل بين الخير والشر.

وفي كتاب ترجمة شيطان للعقاد يقول:ولا عجب أن ترى الفنان في كثير من الأحيان عصي الانقياد للقانون السائد والأوضاع القائمة، إنه يرى الأشياء ويبصرها كيفما يراها هو، يعيش مجتمعه الواقعي كما يرى أفلاطون أن الفضيلة الكبرى التي لا فضيلة بعدها هي التي تحقق وجوده باعتباره إنسان مواطنا يعيش مع الناس في مجتمع واحد.

ورغم اختلاف أوضاع الحياة العامة فيجيء الشعر مؤلف لما أختلف وموحد لما تشتت. 

والدعوة التي ندعو إليها هي أن تتجه رسالة الشاعر إلى حقيقة الإنسان آلامه وآماله ،وخواطره ومشاعره ليلتقي في محرابه كل إنسان..



رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

Enregistrer un commentaire

Plus récente Plus ancienne