إلى أين؟ خرج من المنزل بعد طول المكوث، يريد أن يخرج فقط، أن يبتعد عن جزيئات المناخ السلبي الذي يؤتت مناخ أسرتهم.
مشى دون توقف، الأهم لديه أن يتحرك، أن يطلق العنان لبصره، أن يفرغ شيء من السوداوية التي تطوق قلبه، وأن يكبح جماح العقل عن خوض معارك التفكير دون جدوى.
خيم الاشمئزاز على محياه أكثر بعد أن غادر المنزل، وهو يتمعن في حالة الطرق التي تخترق جسم قريتهم، تهالكت، لم تعد صالحة حتى للعربات المجرورة. لا أحد آبه للأمر، الكل يجري إلى مثواه الأخير وهو في غفلة. أوضاع قريتهم لا تتغير، وإن تغيرت غالبا ما تذهب نحو الأسوأ، حتى من أجمعت عليه الجماعة باسم صوت الشعب والديمقراطية، سطا على العرش بعد أن امتطى ظهرها، تحسنت أحواله هو لا هي، لا يفكر فيها بل في نفسه فقط، هذه أبجدياتها ليست أبجدياته، هي أرضعته.
جاهد نفسه حد ما يستطيع لإغلاق عيون بصيرته، أوقفها عنوة، يشعر أن الإدراك يقدف به دائما نحو التعاسة، أحيانا من المستحسن أن تظل تجهل بعض الأشياء هذا ما يعتقد لننعم بشيء من الفرح.
عاد من اختماره وتفكيره، وهو يختطف النظر لأفواج من الناس مغادرة بيوتها دفعة واحدة متدمرة، هارعة. لفتت انتباهه، جعلت تفكيره يتوجه نحوها غصبا عنه.
الكل كان متجها إلى مكان واحد، تسارعت عليه الأسئلة دون توقف، قال في نفسه، أكيد شيء ما حدث. لم يزحزح نظره على الوفود المتجهة إلى اتجاه واحد. من بعيد كان يحاول أن يتعرف على ماهية الوجوه، أن يفرز شيء ما يعطيه ملامح ما حدث، استشف بعد طول التحديق أن أحدهم يحمل قصعة كسكس فوق رأسه، فهم أن أحدا ما في القرية غادر الحياة، لكن مَنْ؟ أجاب نفسه لا يهم، يجب أن نقدم واجب العزاء، مشى مسرعا وراءهم.
كان الناس ما يزالون يتوافدون من كل صوب، عرف من غادر الحياة، بعد أن رأى المنزل الذي يقدمون فيه الناس العزاء، تدورت الروح حزنا، كادت تباغته دموعها، هدأ نفسه باستحضار تلك الفكرة الراسخة فيه متعاليا على الألم الذي يصطحبها أن الموت رحمة عكس ما يشاع.
يفهم جيدا معنى أن تفقد أحد الوالدين ، هي ظلمة تظل تلاحقك حتى تغادر الحياة، هي تتمة لرحلة الحياة بعين معتورة.
استوقفه مظهر الكم الهائل من السيارات غصبا عنه وهو على بضعة أمتار قليلة من دخول منزل الفقيد، وعدد الناس النازحين اتجاه المنزل و أهازيج كلام المتجمهرين أمامه. حاول تجاهل ما استشفه.
نهضت من وسط تخوم ذاكرته، تلك الصورة، وهو تائه وسط شلال أفكاره، ما زالت مخزنة بألوانها الحزينة، مؤرخة لمشاعره في ذلك المأتم الفقير من الناس، الذي زاده غياب المعزين حزنا وبؤسا في قريتهم. تحرك مستنفرا صوت من داخله قائلا:
ذلك المأتم عرف غياب أغلب الوجوه الحاضرة هنا. حرك رأسه بإيجاب كأنه يقول أعرف أن للموت وجع، و تتغير نسبته حسب مكانة المتوفى.
تذكر تلك الأسئلة التي طرحها في ذلك المأتم، أين الناس؟ أين أهل هذه القرية؟ لماذا هذا الحضور المحتشم؟ إن هذا الفقيد وهذه الأسرة، هم منا كذلك( أراد أن يصرخ قائلا بأعلى صوت ).
تسللت إليه تلك القولة التي جرحته عميقا في الداخل وسكنت ذاكرته وهو يتبادل التحية مع أحد جيرانهم الذي قدم واجب العزاء لأسرة الفقيد. هي وحدها التي أجابته، تذكرها ظلت راسخة في ذاكرته، أحس أن شكري المبخوت كتبها من أجله في روايتة الطلياني بالقول:
"الموتى لا يتساوون، والجنازة دليل على رأسمال المتوفى وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والمكانة والرموز"
رأى القولة مجسدة أمامه، زادته جرحا في دواخله على عدم تساوي الموتى في تلقى عائلاتهم للمواساة. تجاهل ما فكر فيه مواسيا نفسه باستحضار فكرة أننا متساوون في النزول إلى القبر ، وأن واجب العزاء هو لله و ليس للناس.
دخل وسط الناس يبحث وسط الوجوه عن القلوب الأكثر تضررا من هذا الفراق المؤلم، بنظرة متفحصة رأى أن كل ركائز القرية موجودون، حتى من تستبطن أرواحهم شيئا من الغل للفقيد وعائلته. كان الحزن يخيم على معظم الملامح، لا أحد يناقش شيء، الصمت يخيم على الجميع، وإجهاشات البكاء تمزق القلوب.
إنتظر عدد من الناس أمامه ليقدم تعزيته وليصل دوره، كما هو متعود دائما، عزاه بإحساس كأنه يحاول أن يمتص منه شيء من الحزن الذي يسكنه بفعل فراق والده. يكره ذلك العزاء السطحي الحركي وتلك الكلمة المواسية النمطية، التي تنبع فقط من اللسان ولا رابط لها بالوجدان.
قدم واجب العزاء لجميع أفراد العائلة وعقله لم يقف عن التفكير والمقارنة بين تلك المآثم شبه الفارغة والممتلئة عن آخرها، آلمته في الداخل لأنه يعرف في أي فئة يصنف في أفئدة أهل القرية. غادر المأتم حزينا، بدرجة أكبر من تلك التي كان عليها و هو متوحدا مع نفسه في غرفته، مؤمنا بلا ريب بأحقية المواساة و العزاء للجميع على قدم المساواة لكل فرد من أفراد قريتهم.