ظهرت في سماء الشاشة الفضية كوكبًا متلألئًا يبعث الأنوار ويبهر الأنظار، ويملأ أجواز الفضاء بهجةً وضياء، فطار عقله حولها طيران النحل حول الزهر، سارت بين الأشجار،أصابع النسيم الخفيفة تلامس وجهها،قامات الأزهار والأعشاب تتمايل بين أقدامها،بلغت وسط الحديقة،جلست صامتة على ذلك المقعد الخشبي المطل على الغدير،تسمع تنفس الطبيعة النائمة وتكشف بحلاوة التنهد خفايا صدرها أمام عيون السماء.جلس قبالتها، متأملًا محاسنها، معجبًا بمواهبها، مصغيًا لسكينة ملامحها، شاعرًا بوجود أيد خفية تجذبه إليها، في كل مشهد تبين له معنىً جديدًا من معاني جمالها وسرًا من أسرار روحها حتى أصبحت أمام عينيه كتابًا يقرأ سطوره ويستظهر كلماته ويترنم بنغماته ولا يستطيع الوصول الى نهايته.
لم يكن جمالها في شعرها الأسود المسترسل كبنات جنسها من بنات الهند بل في هالة الطهر المحيطة بها، ولم يكن في عينيها الواسعتين بل في الشعاع المنبعث منهما، ولافي شفتيها الورديتين بل في الحلاوة السائلة عليهما، ولا في كمال جسدها بل في نبل روحها الشبيهة بشعلة متقدة سابحة بين الارض والفضاء. إن جمال نفسها المشفوع بجمال الجسد، ظاهرة غامضة، فهمها بالمحبة والتمسها بالطهر وعندما حاول وصفها بالكلام اختفت بصيرته وراء ضباب الحيرة والالتباس.
اقتربت من حافة الشاشة، نظرت إليه وقد باحت أجفانها بسرائر نفسها، ثم مدت إليه يدها الخفيفة اللطيفة بهدوء سحري،وضعتها على يده،شعر بموجات كهربائية تذيب كل ما في قلبه، نسي ماضي حياته ونسي كيانه، ونسي كل شيء، ولم يعد يعرف سواها، ولا يشعر بغير وجودها.
فكر واحد جاءه في سكينة الليل سار به إلى الجنون، نظرة واحدة من أطراف أجفانها جعلته أسعد الناس، نظرة واحدة راشته بها في تلك الليلة الهادئة، أوقفته بين ماضيه ومستقبله وقوف سفينة بين لجة البحار وطبقات الفضاء، نظرة واحدة أيقظته من سبات الخلو وسارت بأيامه على طريق جديدة إلى مسارح الحب حيث العشق والهيام.
ظل ساعة طويلة غائبًا عن نفسه، وعن الوجود، كله لا حراك،وقد ألقى بنفسه على سريره ،أغمض عينيه في الحال،حتى لا يقطع عليه أحد هذه النعمة، نعمة الحب. أخذ يسند يده التي سعدت بيدها فوق صدره في عناية وحرص، مضت لحظات وهو على ذلك الوضع، ثم أخذ يسحب اليد السعيدة نحو وجهه، ليداعب خديه بظهرها الذي باركته راحتها، وليســتنشق ما بقى في ظــهر يــده من عبق الحب وعطره الفوّاح المسكر.
حتى بعد أن أسلمت جفونه للنعاس، لا يزال يشعر بدفء يدها السحرية يشيع في صدره ويباركه.لقد ظل على حاله ولم يفق إلا ظهر اليوم التالي، ومنذ ذلك الحين، فإن طيفها لا يفارقه لحظة واحدة،يراها في كل وقت وفي كل مكان وفي كل شيء، وصار لا يعي ما يفعل ولا يدرك ما يقول، ولا يفهم ما يريد. لا يشبع إذا أكل،ولا يرتوي إذا شرب، ولا يتكلم إذا سكت، ولا يسكت إذا تكلم، يمني نفسه ليل نهار أن يصطخب بأخبارها هنا وهناك، وهو الذي لم يترك هاتفًا إلا سعى إليه كي يسمع صوتها، لكنه ما اصطدم إلا بالخيبة الشاهقة، وباليأس يعقب وهمه المتعب. وقد أصبح في هذا الغياب في قليل من الظلام وقليل من النهار، يلفظ الروح في اتساع الليل على مدار حلمه بها، وفي كل لحظة يموت شوقًا ويستعيد الحياة شوقًا، ولا يكسب إلا الخسران، ويرتجف كالهواجس لا ترى نورًا ولا تلمس إلا الرعب والخوف واليأس المنتشر كالهواء.
أصبح كالمسافر الذي وصل إلى مدينة غريبة عنه،في الهزيع الأخير من الليل،فإذا كل شيء يبدو للعين باهت، وخرير مياه النهر يتناهى إلى أذنيه خلال السكينة التي ترافق النعاس وكأنه أنين مبهم،فلا جرم إذا أخذ يتطلع إلى إنبلاج الصبح بصبر نافذ لتتبين أمام عينه معالم تلك المدينة التي يمنى نفسه بأن يجد فيها فاتنته.
أتلفته محرقة الأيام،وهو يسعي إلى جنون عشقها، يعيش عاصفة الحلم وسكون الانتظار،يداري حمى الهيام وهي تأكل أطرافه ويهذي هذيانها،وإذا قيل له أنت في حاجة إلى طبيب، يتنهد طويلًا وينظر إليهم نظرة دامعة ويقول:
إنما يبغي الطبيب من يؤثر الحياة على الموت،ثم يغمض عينيه ويعود إلى ذهوله واستغراقه.
لم يجد أهله بدًا من دعاء الطبيب سواء رضِيَ أم أبَى،ظنًا منهـــم أن ابنهم صار مخبولًا مجنونًا.
دخل عليه الطبيب في خلوته، فرآه يحدّق في فضاء الغرفة ودموعه تنحدر على خديه تحدّر القطر على أوراق الزهر، جلس إلى جواره،أخذ يروضه ويمسحه ويمنيه الأماني العذبة حتى أسلس وهدأ، ثم طلب منه أن يكشف له من خبيئة نفسه ما يكتمه، فأبان له أنها نزلت من نفسه منزلة هي منزلة الحياة من الجسد، والغيث من التربة القاحلة،ولو أن أحدًا من قبله استطاع أن يدفع هواه عن قلبه أو يمحو ما قُدر له في صحيفة قضائه من شقاء الحب وبلائه لسلك سبيله التي سلكها، ولكنه بلاء بلي به لحين أُريد له، فلا رأي له في رده، ولا حيلة له في اتقائه،وإن كانوا لابد لهم من إبعاده عنها فهم يبعدون جسمًا هامدًا لا حراك به، ونبتةً ذاويةً لا حياة فيها.
خرج الطبيب إلى أهل الدار بعد أن ألمَّ بحالة ابنهم،فصاحوا به:
ما الذي ألمَّ به، أخبل هو أم جنون؟
رد الطبيب مبتسمًا:
لا هذا ولا ذاك، وإنما هي فتنة نون النسوة.
بقلم أحمد سليمان أبكر @أحمدسليمان
للمزيد من المنتوجات الادبية المرجو متابعتنا على صفحاتنا @apolomagazineofficial
@moroccan_writers
#مجلة_ابولو_الثقافية #أدب_عربي #كتاب_مغاربة #نثريات_قوافي_شعرية #كتابات