مقطع من رواية عتمة قمم
روحانية العشق: صوتان يُطربان في العتّمة
بين مهب الريح وأنغام متناسقة رنانة، داخل غرفة متهالكة بذاك المنزل القديم، انطلقت حكاية عشق مليئة بالحب والجوى، مختلفة وراءها ذكريات رائعة تعودُ ولا تُعاد... كان أبو ليلى وزوجته مجتمعين في هذا المكان المتهالك الذي يملأه الصمت، ويكسوه الظلام.
ـ «أبو ليلى»: "هل تتذكرين كيف كنتِ يومًا ما بين يديَّ قبل أن تُبلينا الأيام، ونفقد القوة والحيوية؟ كنتِ تبعثين الحياة في أوردتي، وكان حضنك الدافئ ملاذا آمنا يحميني من هواجس المشيب وثقل الأيام.. هل تذكرين عندما كنتِ تضمينني إليك بقوة، فتشحنينني بحبك وعطفك وحنانك الذي يجعلني أجتاز كل الصعاب؟ كانت يداكِ عندماتربتين بهما على كتفي يعيدان إلي الأمل ويمنحانني الشجاعة لأواجه عالمًا مليئًا بالتحديات والصعاب.."
ـ «أم ليلى»: "لا تحاول فك يدك عن يداي، دعنا نستريح قليلًا ونواجه العاصفة الراهنة.. اجلس بجواري، فأنا ها هنا لأقف بجانبك جبلا راسخا شامخا في وجه الزمن وتقلباته.. دعنا نقاوم هذا الواقع المرير، ونجعل من صمتنا العميق طائر الحب الذي يحمل رسائلنا المليئة بالحب إلينا، والكثير من الدفء والأمل.. لا ترفع عكازك المتهالك لتضرب به في الفراغ، فقد أصبحنا مسجونين في هذا المكان الذي تُسطر فيه قصص المسنين الحزينة، ويحيا فيه ألم النسيان.. لا يوجد عدو نحاربه هنا سوى عقارب الساعة التي تنفث سمها البطيء في وقتنا، ولا زائر ننتظر سوى ملك الموت الذي يحوم بالقرب منا، وعلى عتبة أوردتنا بل هو أقرب إليها منا، فاعله يأخذ بيدها نحو النسيان.."
كانت الأوردة على يدي «أبي ليلى» تشبه أفعى سامة تنشد الرطوبة حيث تستطيع نفث سمها بأريحية، كان النمش على جلده شاهدًا على عبور الزمن وتقادم عهده، ومضي زمن صباه وشبابه .. يداه المثقلتان بالسنوات العجاف تحمل بقايا عسل قطفتْه نورًا من أراضي الحب والشجاعة.
ـ «أبو ليلى»: "بحق ما يجمعنا من حب وغرام كل هذه الأعوام، لا تستندي إلى كبريائك وعصاك المتآكلة وخمرك القديمة لتذكيري بمغامرات الشباب وتهور الصبا.. قبضتك هذه لم تكن يومًا تعرف الهزيمة أو الانكسار.. لم تكن تعرف مأوى للمسنين، بل ما كانت تعرف إلا القوة والشجاعة..
ـ «أم ليلى»: "وإذا كانت أصابعك لا تتذكر إلا طرقاتها على شباك نافذتي الرقيقة، فقد اختارت اليوم أن تنام حضنها مثل فستقةٍ خجولةٍ محبوبة.. أصابعك فستقٌ مَلَكيٌّ يا سيدي، وصوتك له وقع خاص وأثر عجيب، فلا ينكسر ولا يتلاشى ولا يشيخ في أذني.. صوتك هو مدفأتي التي أستدفئ بها قبل النوم، ورفيقي الأول والأخير.."
ـ «أبو ليلى»: "إن كلامك هذا لا يكفي وقفًا على كرسيك في يومنا هذا.. فلا تكتفي بلطف اصطناعي تتنكرين به وتختبئين خلفه، ثم تقذفيني به في وجهي عندما يدهمني الحزن أو يطرق بابي الألم.. كلامكِ هذا هو باقة الزهور التي احتفظت بها لنا، وكتمت حبنا طويلًا، ثم جئت اليوم لتخاطبيني قائلة: شكرًا لك على وظيفة جديدة لقلبك الذي ينبض بالدماء.. كرسي عرشكِ هذا ما عاد يتحرك ولا يسير، بل يطير فوق السماء بعد أن هجر مرآة الزينة ومحلات التجميل.. الجميلة جميلة الروح والطباع، ولا تحتاج لما تتجمل به، ولا تصدقي تلك الخطوط المرتسمة على وجهك والتي يسمونها التجاعيد.. إنها موجاتٌ صنعتها أنفاس النرجس على بحيرة وجهك، يا حلوتي.. هاتي يديكِ وعينيكِ، ولنرقص معا على أنغام حبناالأبدي هذا المساء.."
ـ «أم ليلى»: "إن عيوننا ترقصان وراء سجن الزجاج السميك، الدموع لغتنا المكسورة، وتعرُّق العينين في لحظات الإرهاق أمارة التعب من نصَب السنين.. هيا، شيءٌ من الظلام، وقليلٌ من النور.. لنودع الرقصة في رحلة الغروب، ولنواجه بقوة هذين القلبين الذين يقرعان بتعب ممتع.. إنهما يتعبان، لذا دعنا نقول لهما «توقفا، شكرًا، وكفى».. هيا، انفخي فيهما يا نرجس البرية بأنفاسك الزكية الأخيرة، فإن أنفاسك الأخيرة تجعلني أبديًّ الابتسامة، وتجعلكَ مرفوعَ الهامة مثل سيد الرياح.. هيا، نحلق دون كرسي أو عكاز أو أنفاس أو حقن أو مستحضرات التجميل.. نحن نغني الأهازيج الأخيرة للأوعال ونسابق الشمس، «لا، لااا»، صوتنا لم يعد كحشرجة أنفاس عجوز جائع في حلقومه الضيق الرطب.."