![]() |
نصير الشيخ (شاعر، ناقد وفنان تشكيلي من العراق). |
تتهاطل عليه سحب الوحدة، ورائحة التبغ تملأ حجرته الرطبة، كل شيء ملتصق على خشب جدرانها المصفروالذي يشيرلأزمنة مرت،وسنوات تآكلت ايامها هنا. يدفن وجههُ في غمرة أوراق لكتاب بمغلف جلدي، يحك لحيته البيضاء،ويغرق في سحرٍ من نوع خاص ،كأن أوراق الكتاب وسطوره بحرٌ لجيٌّ يأخذه في قرارة بعيدة، يهرش فروة رأسهِ، لتقفزالدهشة كغزلان نافرة، ويغرق رويداً رويداً في هذه اللجة العميقة
((رأيت بعد ذلك باباً مفتوحاً في السماء،وأذا الصوت الذي سمعته من قبل يخاطبني،كانه اليوم يقول..إصعد الى هناك لأطلعك على ما لابد من وقوعه بعد حين.
فآختطفتني الروح عندئذ،وإذا بعرش قد رفع الى السماء،وعلى العرش واحد يترأى كأنه اليشب " حجر كريم يشبه الزبرجد" والياقوت الأحمر...)).
سحبَ نفساً عميقاً من تبغ غليونه،والقة نظرة خاطفة للبعيد عابرة شباك حجرته الخشبي،هذه النافذة على مرآى العالم والافق اللآمتناهي لديه ...سماء تتلالأ بنجوم ،وريح خفيفة تحرك الشجيرات المتباعدة.أمتدت يده الراعشة لسحب كتاب آخر، ليفتح فيه وعبر أوراقهِ دهشة آخرى،ترى أين قرأت أن أحد المحكومين بالأعدام قال قبل تنفيذ الحكم فيه : (( وأذا أتيح لي ان أعيش في مكان ما على قمة صخرة دون أن يكون أمامي اكثر من قدمين من المجال الحيوي الذي يفصلني عن الهاوية او على نتوء وسط محيط خضم وظلمات أبدية، تهددني العواصف العاتية،حد انه يستحيل العيش الا بمساحة لاتزيد على قدم مربعة واحدة )).
قلبّ كثيراً في صفحات الكتاب الذي بين يديه، سرحت أفكاره بعيدا، وها هوفي خلوته منتظراً شيئاً ما،أعباء وحياة تناثرت أيامها وغادرت لذتها،وادارت له الدنيا بهجتها،وصارت العزلة في هذا المحجر الخشبي الملتف على وحدتهِ نسقاً حياتياً ليس بإستطاعته تغييرهِ،والكتب برائحتها وحبرها وعوالمها السرانية مسكنه الدائم،والأوراق الصفراء المتناثرة والخرائط تواريخ وأزمنة غابرة .
(( سألت نفسي:فيمَ برمكَ بالوجود،وفيم هياجك،وفيم حزنك،وفيم تمزيقك لفؤادك منذ أن كنت حبيساً؟ أجب بكلمة واحدة ولا تطل ..اليس لانك غير سعيد؟ اليس ذلك لأنك أيها السيد لاتجد الاحترام الكافي ولا تجد الغذاء الكافي ولاتجد فراشاً ناعماً ولاتجد قلباً نابضاً..ما أحمقك أيها الروح )).
مد يده الى قدحٍ فيه شراب ساخن هو خلطة من زهور طبيعية نباتية، رشف منه بلذةٍ وسحب نفساً من تبغ غليونه، فغامت حوله الروية وتضبب مصدر الضوء في حجرتهِ،وهناك الظلمة أسدلت أستارها،والافق غط في دكنةٍ وسكون.
مد يده اليسرى وسحب من رف قريب من منضدته كتابا ً تربو أوراقه الاربعمئة ورقة تكسوها صفرة وجلد قهوائي كأنه جلد غزال، ليحنو رقبته ويعدل نظارته المدورة ويغط بين أسطره (( نحن تعساء في زواجنا،في عزوبيتنا،تعساء في اجتماعنا عن الناس،أننا كالقنافذ تقترب من بعضها لتشعر بالدفء، لا لتشعربالراحة اذا اشتد التصاقها،ومع ذلك فهي تعيسة في ابتعادها عن بعضها..ان الحياة مضحكة ،،ولكن ضحك كالبكاء))...
سحب ماتبقى من تبغ غليونه،ونظر الى الأفق من خلال نافذة كوخه الخشبي، ثمة ليل يغادروفجريود أن يشق ضياءه حدود الأفق البعيد....