دفئ بلا حنان

دفئ بلا حنان كاسرًا لرتابة الصمت الذي خيّم على حياتي لسنوات، باعثًا بموجة من الرعب عبرت على قلبي، فهزت أعماقي، رن جرس باب قبري الكبير، معلنًا عن المجهول الذي طالما انتظرته؛ استندت إلى الأريكة بيدين مرتعشتين من وهن وخوف، ووقفت أقيم ظهري، الذي أحنته السنون العجاف، ومضيت في صالة بيتي الكبير، بخطًى متثاقلة أجر قدمي جرًّا، عبر أطنان من الخردة والقمامة المتراكمة، التي تملأ فراغ البيت، نحو باب خشبي منقوش بإتقان، عليه رسمة عصفورين في عشهما؛ كنا قد تعاهدنا على أن نكون مثلهما، أمسكت بمقبض الباب البارد، أستشعر معه صقيع ليالي الشتاء القارسة، وألفهُ فيفتح الباب، أنظر من خلفه، أبحث عن الطالب، فلا أجده! أكان أحد تلك الأشباح؟ لا بأس. وقبل أن أغلق، لاحظت ظرفًا مغلقًا على العتبة، أمسكته بفضول، لم تصلني رسالة منذ عشرة أعوام! أعود أدراجي إلى الأريكة، وأتأمل الحديقة التي زرعناها سويًّا، وقد صارت بيتًا للجرذان والحشرات، ومِكبًّا للنفايات، وهي التي كانت جنة بين الجنان، أفتح الظرف بأظافري الطويلة العفنة، أخرج الورقة البيضاء، التي يكسر لونها عتمة المكان، أتحسس خشونتها وجفافها بأناملي، تذكرني بمشاعري المكتومة و أيامي القاحلة. أقرأ سطور الحبر الأزرق (اسم المرسل: …)، فتتسع عيناي، ويدق قلبي بقوة، و أصرخ مخبئة الرسالة بين ذراعي، ثم أضمها إلى صدري. لم أكن أظن أنه سيرد على كل تلك الرسائل، لقد ظننت أنه قد نسيني، رغم شدة لهفتي عليه يوم الزفاف، وحبي له أول أيام زواجنا، ورغبتي في الإنجاب منه، والبيت الذي بنيناه بأيدينا، والحديقة التي زرعناها معًا، ولكن منذ تلك الليلة، رحل ولم أره منذ سنين، كيف أصبح شكله؟ كيف غيره الزمن؟ هل حن إلى جواري؟ هل حقًا يود العودة إلى أحضاني؟ فتحت الورقة مجددًا وأكملت قرائتها: زوجتي الحبيبة، أنا عائد إلى البيت، قابليني عند محطة رمسيس صباح يوم الأربعاء، آسف على كل شيء. نظرت إلى الرسالة بوجه محمر، وعينين جاحظتين من الغضب: آسف! كيف للأسف أن يداوي أعوامًا من الألم، والنار التي كانت تأكلني؟ لقد كان السبب في كل شيء، لقد دمر حياتي وهجرني، بعد أن وضعت كل آمالي على كتفيه، وعشت معه كل أحلامه، و سرت معه في كل الطرق، أَبَعد حبي له وعطائي غير المحدود، يهجرني فقط لأني علمت بأنه لا ينجب، فلما واجهته بالأمر صرخ في وجهي: "لقد تزوجتك فقط من أجل الولد ما فائدتك الآن". بعد أخذ ورد مع نفسي، قررت أن أذهب للقائه، لأريه ما فعلت بي أعوام من الوحدة، والألم، والظلام، فرغم أني في بداية الأمر لم أتحمل فراقه، وأصابتني الآلام، وهاجمتني الوساوس، و أكلت الأمراض من جسدي، حتى صرت عجوزًا في الثلاثينيات من عمرها، بقيت أُجلدُ كل يوم بسوطٍ، أقسى من الذي قبله، حتى كدت أندم على عدم تنفيذي لطلباته، قبل العراك الأخير، كنت أقول "يا ليتني ذهبتُ لزيارة مديره في منزله، كشرط لترقيته كما قال، أو رضيت بالذهاب إلى كبراء عملاء الشركة في منازلهم، كشرط لإنهاء الصفقات، كما كان يطلب"، لكني ما رضيت هذا له أو لي، الآن ها أنا أتزين، مثل شهرزاد وهي تزف إلى شهريار، كم كنت أتمنى لو تخفي هذة المساحيق القديمة عيوبي، فأغدو جميلةً من جديد، لعلك تندم على فراقي، لكن ولى الزمان، سأشوه نفسي بها أكثر، لأرى نظرة الفزع على وجهك يا حزين. وبعد أن لملمت ما تبقى مني، استجمعت شجاعتي، و أمسكت بالمقبض البارد، وحركته فانفتح الباب على مصرعيه، ليشع ضوء قوي في وجهي، يجبرني على إغلاق عيني، أهذه هي الشمس؟! مشيت بخطواتٍ متعثرةٍ بين أكياس القمامة، نحو بوابة الحديقة الموصلة إلى الشارع، وسط نظرات جيراني المرتعبة، وصرخات أطفالهم المذعورة، فهم بين من يهرول هاربًا وبين من يدعو على الجن والشياطين، وأتقدم أنا ناحية الشارع، لأوقف سيارة أجرة؛ هل ظنوا حقا أنه بيت مهجور؟ هل يحسبون أني شبح؟! ألم يروا مندوب شركة الملابس؟ يأتي كل أسبوع، لأخذ الإنتاج الذي أصنعه من ماكينة الخياطة، التي صار صوتها هو النغم الوحيد الذي يطربني في معزوفة حياتي اليائسة. وبعد وقت طويل، وبينما تقف سيارة الأجرة عند المحطة، تأملتها، فما رأيت مكانًا بهذا الجمال من قبل، تبدو من الخارج مسرحا رومانيا قديما؛ دخلت البهو الكبير، جلست في قاعة الانتظار، أخرجت صورته من محفظتي، أتفحصها، والعجيب أنه ورغم قسوة الفترة الفائتة، وبرودة الليالي، لم أنسَ شكله، بل لم يغب عن بالي لحظة، أشتاق له، رغم رغبتي في قتله؛ وبعد دقائق كسر رتابة صمت الكمان، صوت حاد هز أرجاء المحطة، فسقطت من على الكرسي وأنا أسمع الجميع ينادي: "انفجار! لقد انفجر الجرار." أوقفني بعض الشباب على قدمي وهرعوا هاربين، فنظرت فإذا بمجموعة من الأشباح النارية الملتهبة، تندفع نحوي، وكان في وسطهم شبح لم يحترق وجهه، دققت فيه النظر فكان هو! لقد رآني أيضا، وها هو يركض نحوي، والنار تأكل من جسده، تعطلت تعابير وجهي من الصدمة، فصرت بين الفرح فيه شامتة على انتقام القدر منه، وبين الفزع والهلع خوفا عليه. وما هي إلا لحظاتٌ، ووجدت نفسي بين ذراعيه، يلفني بهما ويستلقي ببدنه على جسدي، ونحن ممددين على الأرض، وقد بدأ اللهب يلفح جسدي، وهو يردد كلمتان فقط: "أنا آسف سامحيني." أخيرا لقد ضمني إلى صدره من جديد بعد كل تلك الأعوام؛ أخيراً! أحسست في ضمه الدفءَ، لكن من دون حنان. بقلم خالد محمد عبد العزيز للمزيد من المنتوجات الادبية المرجو متابعتنا على صفحاتنا @apolomagazineofficial @moroccan_writers #ذكريات #أدب_عربي #كتابات #حكمة #دفئ


رشيد سبابو

المؤسس و مدير التحرير

إرسال تعليق

أحدث أقدم